lundi 30 décembre 2013

الكتاب : شرح نهج البلاغة - ابن ابي الحديد الجزء الثاني




الكتاب : شرح نهج البلاغة - ابن ابي الحديد
الذي خرج باقي الكلام منه و لا من الخاطر الذي صدر ذلك السجع عنه و لعمر الله لقد جملت الخطبة و حسنتها وزانتها و ما مثلها فيها إلا كآية من الكتاب العزيز يتمثل بها في رسالة أو خطبة فإنها تكون كاللؤلؤة المضيئة تزهر و تنير و تقوم بنفسها و تكتسي الرسالة بها رونقا و تكتسب بها ديباجة . و إذا أردت تحقيق ذلك فانظر إلى السجعة الثانية التي تكلفها ليوازنها بها و هي قوله و لا قعدوا عن صون ديارهم إلا اضمحلوا فإنك إذا نظرت إليها وجدت عليها من التكلف و الغثاثة ما يقوى عندك صدق ما قلته لك . على أن في كلام ابن نباتة في هذا الفصل ما ليس بجيد و هو قوله و حرز طهر الله به أجسامكم فإنه لا يقال في الحرز إنه يطهر الأجسام و لو قال عوض طهر حصن الله به أجسامكم لكان أليق لكنه أراد أن يقول طهر ليكون بإزاء وفر و بإزاء أظهر فأداه حب التقابل إلى ما ليس بجيد
(82/5)

غارة سفيان بن عوف الغامدي على الأنبار
فأما أخو غامد الذي وردت خيله الأنبار فهو سفيان بن عوف بن المغفل الغامدي و غامد قبيلة من اليمن و هي من الأزد أزد شنوءة و اسم غامد عمر بن عبد الله بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد و سمي غامدا لأنه كان بين قومه شر فأصلحه و تغمدهم بذلك . روى إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب الغارات عن أبي الكنود قال حدثني سفيان بن عوف الغامدي قال دعاني معاوية فقال إني باعثك في جيش كثيف ذي أداة و جلادة فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بهيت
[ 86 ]
(83/1)

فتقطعها فإن وجدت بها جندا فأغر عليهم و إلا فامض حتى تغير على الأنبار فإن لم تجد بها جندا فامض حتى توغل في المدائن ثم أقبل إلي و اتق أن تقرب الكوفة و اعلم أنك إن أغرت على أهل الأنبار و أهل المدائن فكأنك أغرت على الكوفة إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترعب قلوبهم و تفرح كل من له فينا هوى منهم و تدعو إلينا كل من خاف الدوائر فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك و أخرب كل ما مررت به من القرى و احرب الأموال فإن حرب الأموال شبيه بالقتل و هو أوجع للقلب . قال فخرجت من عنده فعسكرت و قام معاوية في الناس فخطبهم فقال أيها الناس انتدبوا مع سفيان بن عوف فإنه وجه عظيم فيه أجر سريعة فيه أوبتكم إن شاء الله ثم نزل . قال فو الذي لا إله غيره ما مرت ثالثة حتى خرجت في ستة آلاف ثم لزمت شاطئ الفرات فأغذذت السير حتى أمر بهيت فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات فمررت بها و ما بها عريب كأنها لم تحلل قط فوطئتها حتى أمر بصندوداء ففروا فلم ألق بها أحدا فأمضي حتى افتتح الأنبار و قد نذروا بي فخرج صاحب المسلحة إلي فوقف لي فلم أقدم عليه حتى أخذت غلمانا من أهل القرية فقلت لهم أخبروني كم بالأنبار من أصحاب علي ع قالوا عدة رجال المسلحة خمسمائة و لكنهم قد تبددوا و رجعوا إلى الكوفة و لا ندري الذي يكون فيها قد يكون مائتي رجل فنزلت فكتبت أصحابي كتائب ثم أخذت أبعثهم إليه كتيبة بعد كتيبة فيقاتلهم و الله و يصبر لهم و يطاردهم و يطاردونه في الأزقة فلما رأيت ذلك أنزلت إليهم نحوا من مائتين
[ 87 ]
(83/2)

و أتبعتهم الخيل فلما حملت عليهم الخيل و أمامها الرجال تمشي لم يكن شي ء حتى تفرقوا و قتل صاحبهم في نحو من ثلاثين رجلا و حملنا ما كان في الأنبار من الأموال ثم انصرفت فو الله ما غزوت غزاة كانت أسلم و لا أقر للعيون و لا أسر للنفوس منها و بلغني و الله أنها أرعبت الناس فلما عدت إلى معاوية حدثته الحديث على وجهه فقال كنت عند ظني بك لا تنزل في بلد من بلداني إلا قضيت فيه مثل ما يقضي فيه أميره و إن أحببت توليته وليتك و ليس لأحد من خلق الله عليك أمر دوني . قال فو الله ما لبثنا إلا يسيرا حتى رأيت رجال أهل العراق يأتوننا على الإبل هرابا من عسكر علي ع . قال إبراهيم كان اسم عامل علي ع على مسلحة الأنبار أشرس بن حسان البكري . و روى إبراهيم عن عبد الله بن قيس عن حبيب بن عفيف قال كنت مع أشرس بن حسان البكري بالأنبار على مسلحتها إذ صبحنا سفيان بن عوف في كتائب تلمع الأبصار منها فهالونا و الله و علمنا إذ رأيناهم أنه ليس لنا طاقة بهم و لا يد فخرج إليهم صاحبنا و قد تفرقنا فلم يلقهم نصفنا و ايم الله لقد قاتلناهم فأحسنا قتالهم حتى كرهونا ثم نزل صاحبنا و هو يتلو قوله تعالى فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ثم قال لنا من كان لا يريد لقاء الله و لا يطيب نفسا بالموت فليخرج عن القرية ما دمنا نقاتلهم فإن قتالنا إياهم شاغل لهم عن طلب هارب و من أراد ما عند الله فما عند الله خير للأبرار ثم نزل في ثلاثين رجلا فهممت بالنزول معه ثم أبت نفسي و استقدم هو و أصحابه فقاتلوا حتى قتلوا رحمهم الله و انصرفنا نحن منهزمين .
[ 88 ]
(83/3)

قال إبراهيم و قدم علج من أهل الأنبار على علي ع فأخبره الخبر فصعد المنبر فخطب الناس و قال إن أخاكم البكري قد أصيب بالأنبار و هو معتز لا يخاف ما كان و اختار ما عند الله على الدنيا فانتدبوا إليهم حتى تلاقوهم فإن أصبتم منهم طرفا أنكلتموهم عن العراق أبدا ما بقوا . ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلم منهم متكلم فلم ينبس أحد منهم بكلمة فلما رأى صمتهم نزل و خرج يمشي راجلا حتى أتى النخيلة و الناس يمشون خلفه حتى أحاط به قوم من أشرافهم فقالوا ارجع يا أمير المؤمنين و نحن نكفيك فقال ما تكفونني و لا تكفون أنفسكم فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله فرجع و هو واجم كئيب و دعا سعيد بن قيس الهمداني فبعثه من النخيلة في ثمانية آلاف و ذلك أنه خبر أن القوم جاءوا في جمع كثيف . فخرج سعيد بن قيس على شاطئ الفرات في طلب سفيان بن عوف حتى إذا بلغ عانات سرح أمامه هانئ بن الخطاب الهمداني فاتبع آثارهم حتى دخل أداني أرض قنسرين و قد فاتوه فانصرف . قال و لبث علي ع ترى فيه الكآبة و الحزن حتى قدم عليه سعيد بن قيس و كان تلك الأيام عليلا فلم يقو على القيام في الناس بما يريده من القول فجلس بباب السدة التي تصل إلى المسجد و معه ابناه حسن و حسين ع و عبد الله بن جعفر و دعا سعدا مولاه فدفع إليه الكتاب و أمره أن يقرأه على الناس فقام سعد بحيث يستمع علي ع صوته و يسمع ما يرد الناس عليه ثم قرأ هذه الخطبة التي نحن في شرحها .
[ 89 ]
(83/4)

و ذكر أن القائم إليه العارض نفسه عليه جندب بن عفيف الأزدي هو و ابن أخ له يقال له عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف . قال ثم أمر الحارث الأعور الهمداني فنادى في الناس أين من يشتري نفسه لربه و يبيع دنياه بآخرته أصبحوا غدا بالرحبة إن شاء الله و لا يحضر إلا صادق النية في السير معنا و الجهاد لعدونا فأصبح و ليس بالرحبة إلا دون ثلاثمائة فلما عرضهم قال لو كانوا ألفا كان لي فيهم رأي . و أتاه قوم يعتذرون فقال وَ جاءَ اَلْمُعَذِّرُونَ و تخلف المكذبون و مكث أياما باديا حزنه شديد الكآبة ثم جمع الناس فخطبهم فقال أما بعد أيها الناس فو الله لأهل مصركم في الأمصار أكثر من الأنصار في العرب و ما كانوا يوم أعطوا رسول الله ص أن يمنعوه و من معه من المهاجرين حتى يبلغ رسالات ربه إلا قبيلتين قريبا مولدهما ما هما بأقدم العرب ميلادا و لا بأكثرهم عددا فلما آووا النبي ص و أصحابه و نصروا الله و دينه رمتهم العرب عن قوس واحدة فتحالفت عليهم اليهود و غزتهم القبائل قبيلة بعد قبيلة فتجردوا لنصرة دين الله و قطعوا ما بينهم و بين العرب من الحبائل و ما بينهم و بين اليهود من الحلف و نصبوا لأهل نجد و تهامة و أهل مكة و اليمامة و أهل الحزن و السهل و أقاموا قناة الدين و صبروا تحت حماس الجلاد حتى دانت العرب لرسول الله ص و رأى منهم قرة العين قبل أن يقبضه الله عز و جل إليه و أنتم اليوم في الناس أكثر من أولئك ذلك الزمان في العرب . فقام إليه رجل آدم طوال فقال ما أنت بمحمد و لا نحن بأولئك الذين
[ 90 ]
(83/5)

ذكرت فقال ع أحسن سمعا تحسن إجابة ثكلتكم الثواكل ما تزيدونني إلا غما هل أخبرتكم أني محمد و أنكم الأنصار إنما ضربت لكم مثلا و إنما أرجو أن تتأسوا بهم . ثم قام رجل آخر فقال ما أحوج أمير المؤمنين اليوم و أصحابه إلى أصحاب النهروان ثم تكلم الناس من كل ناحية و لغطوا و قام رجل منهم فقال بأعلى صوته استبان فقد الأشتر على أهل العراق أشهد لو كان حيا لقل اللغط و لعلم كل امرئ ما يقول . فقال علي ع هبلتكم الهوابل أنا أوجب عليكم حقا من الأشتر و هل للأشتر عليكم من الحق إلا حق المسلم على المسلم . فقام حجر بن عدي الكندي و سعيد بن قيس الهمداني فقالا لا يسوؤك الله يا أمير المؤمنين مرنا بأمرك نتبعه فو الله ما نعظم جزعا على أموالنا إن نفدت و لا على عشائرنا إن قتلت في طاعتك فقال تجهزوا للمسير إلى عدونا . فلما دخل منزله و دخل عليه وجوه أصحابه قال لهم أشيروا علي برجل صليب ناصح يحشر الناس من السواد فقال له سعيد بن قيس يا أمير المؤمنين أشير عليك بالناصح الأريب الشجاع الصليب معقل بن قيس التميمي قال نعم . ثم دعاه فوجهه فسار فلم يقدم حتى أصيب أمير المؤمنين ع
[ 91 ]
(83/6)

28 ـ و من خطبة له ع
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ وَ آذَنَتْ بِوَدَاعٍ وَ إِنَّ اَلآْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَ أَشْرَفَتْ بِاطِّلاَعٍ أَلاَ وَ إِنَّ اَلْيَوْمَ اَلْمِضْمَارَ وَ غَداً اَلسِّبَاقَ وَ اَلسَبَقَةُ اَلْجَنَّةُ وَ اَلْغَايَةُ اَلنَّارُ أَ فَلاَ تَائِبٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ مَنِيَّتِهِ أَ لاَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمِ بُؤْسِهِ أَلاَ وَ إِنَّكُمْ فِي أَيَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجَلٌ فَمَنْ عَمِلَ فِي أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ وَ لَمْ يَضْرُرْهُ أَجَلُهُ وَ مَنْ قَصَّرَ فِي أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ خَسِرَ عَمَلُهُ وَ ضَرَّهُ أَجَلُهُ أَلاَ فَاعْمَلُوا فِي اَلرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ فِي اَلرَّهْبَةِ أَلاَ وَ إِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا وَ لاَ كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا أَلاَ وَ إِنَّهُ مَنْ لاَ يَنْفَعُهُ اَلْحَقُّ يَضُرُّهُ اَلْبَاطِلُ وَ مَنْ لاَ يَسْتَقِيمُ [ يَسْتَقِمْ ] بِهِ اَلْهُدَى يَجُرُّ [ يَجُرُّهُ ] بِهِ اَلضَّلاَلُ إِلَى اَلرَّدَى أَلاَ وَ إِنَّكُمْ قَدْ أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ وَ دُلِلْتُمْ عَلَى اَلزَّادِ وَ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَلَيْكُمُ اثْنَتَانِ اِتِّبَاعُ اَلْهَوَى وَ طُولُ اَلْأَمَلِ فَتَزَوَّدُوا فِي اَلدُّنْيَا مِنَ اَلدُّنْيَا مَا تُحْرِزُونَ [ تَحُوزُونَ ] بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً
[ 92 ]
(84/1)

قال الرضي رحمه الله و أقول إنه لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا و يضطر إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام و كفى به قاطعا لعلائق الآمال و قادحا زناد الاتعاظ و الازدجار و من أعجبه قوله ع ألا و إن اليوم المضمار و غدا السباق و السبقة الجنة و الغاية النار فإن فيه مع فخامة اللفظ و عظم قدر المعنى و صادق التمثيل و واقع التشبيه سرا عجيبا و معنى لطيفا و هو قوله ع و السبقة الجنة و الغاية النار فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين و لم يقل السبقة النار كما قال السبقة الجنة لأن الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب و غرض مطلوب و هذه صفة الجنة و ليس هذا المعنى موجودا في النار نعوذ بالله منها فلم يجز أن يقول و السبقة النار بل قال و الغاية النار لأن الغاية قد ينتهي إليها من لا يسره الانتهاء إليها و من يسره ذلك فصلح أن يعبر بها عن الأمرين معا فهي في هذا الموضع كالمصير و المآل قال الله تعالى قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنَّارِ و لا يجوز في هذا الموضع أن يقال فإن سبقتكم إلى النار فتأمل ذلك فباطنه عجيب و غوره بعيد لطيف و كذلك أكثر كلامه ع . و في بعض النسخ و قد جاء في رواية أخرى و السبقة الجنة بضم السين و السبقة عندهم اسم لما يجعل للسابق إذا سبق من مال أو عرض و المعنيان متقاربان لأن ذلك لا يكون جزاء على فعل الأمر المذموم و إنما يكون جزاء على فعل الأمر المحمود
[ 93 ]
آذنت أعلمت و المضمار منصوب لأنه اسم إن و اليوم ظرف و موضعه رفع لأنه خبر إن و ظرف الزمان يجوز أن يكون خبرا عن الحدث و المضمار و هو الزمان الذي تضمر فيه الخيل للسباق و الضمر الهزال و خفة اللحم و إعراب قوله و غدا السباق على هذا الوجه أيضا . و يجوز الرفع في الموضعين على أن تجعلهما خبر إن بأنفسهما . و قوله ع أ لا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه أخذه ابن نباتة مصالتة
(84/2)

فقال في بعض خطبه أ لا عامل لنفسه قبل حلول رمسه . قوله ألا فاعملوا في الرغبة يقول لا ريب أن أحدكم إذا مسه الضر من مرض شديد أو خوف مقلق من عدو قاهر فإنه يكون شديد الإخلاص و العبادة و هذه حال من يخاف الغرق في سفينة تتلاعب بها الأمواج فهو ع أمر بأن يكون المكلف عاملا أيام عدم الخوف مثل عمله و إخلاصه و انقطاعه إلى الله أيام هذه العوارض . قوله لم أر كالجنة نام طالبها يقول إن من أعجب العجائب من يؤمن بالجنة كيف يطلبها و ينام و من أعجب العجائب من يوقن بالنار كيف لا يهرب منها و ينام أي لا ينبغي أن ينام طالب هذه و لا الهارب من هذه . و قد فسر الرضي رحمه الله تعالى معنى قوله و السبقة الجنة
(84/3)

نبذ من أقوال الصالحين و الحكماء
و نحن نورد في هذا الفصل نكتا من مواعظ الصالحين يرحمهم الله تناسب هذا المأخذ فمما يؤثر عن أبي حازم الأعرج كان في أيام بني أمية قوله لعمر بن عبد العزيز
[ 94 ]
و قد قال له يا أبا حازم إني أخاف الله مما قد دخلت فيه فقال لست أخاف عليك أن تخاف و إنما أخاف عليك ألا تخاف . و قيل له كيف يكون الناس يوم القيامة قال أما العاصي فآبق قدم به على مولاه و أما المطيع فغائب قدم على أهله . و من كلامه إنما بيني و بين الملوك يوم واحد أما أمس فلا يجدون لذته و لا أجد شدته و أما غدا فإني و إياهم منه على خطر و إنما هو اليوم فما عسى أن يكون . و من كلامه إذا تتابعت عليك نعم ربك و أنت تعصيه فاحذره . و قال له سليمان بن عبد الملك عظني فقال عظم ربك أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك . و قيل له ما مالك قال شيئان لا عدم بي معهما الرضا عن الله و الغنى عن الناس . و من كلامه عجبا لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحلة و يتركون أن يعملوا لدار يرحلون إليها كل يوم مرحلة . و من كلامه إن عوفينا من شر ما أعطانا لم يضرنا فقد ما زوي عنا . و من كلامه نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب و نحن لا نتوب حتى نموت . و لما ثقل عبد الملك رأى غسالا يلوي بيده ثوبا فقال وددت أني كنت غسالا مثل هذا أعيش بما أكتسب يوما فيوما فذكر ذلك لأبي حازم فقال الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يتمنون ما نحن فيه و لا نتمنى عند الموت ما هم فيه . و من كلام غيره من الصالحين دخل سالم بن عبد الله بن عمر على هشام بن عبد الملك
[ 95 ]
(85/1)

في الكعبة فكلمه هشام ثم قال له سل حاجتك قال معاذ الله أن أسأل في بيت الله غير الله . و قيل لرابعة القيسية لو كلمت أهلك أن يشتروا لك خادما يكفيك مئونة بيتك قالت إني لأستحي أن أسأل الدنيا من يملكها فكيف من لا يملكها . و قال بكر بن عبد الله أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم . عامر بن عبد القيس الدنيا والدة للموت ناقضة للمبرم مرتجعة للعطية و كل من فيها يجري إلى ما لا يدري و كل مستقر فيها غير راض بها و ذلك شهيد على أنها ليست بدار قرار . باع عتبة بن عبد الله بن مسعود أرضا له بثمانين ألفا فتصدق بها فقيل له لو جعلت هذا المال أو بعضه ذخرا لولدك قال بل أجعل هذا المال ذخرا لي و أجعل الله تعالى ذخرا لولدي . رأى إياس بن قتادة شيبة في لحيته فقال أرى الموت يطلبني و أراني لا أفوته فلزم بيته و ترك الاكتساب فقال له أهله تموت هزالا قال لأن أموت مؤمنا مهزولا أحب إلي من أن أعيش منافقا سمينا . بكر بن عبد الله المزني ما الدنيا ليت شعري أما ما مضى منها فحلم و أما ما بقي فأماني . مورق العجلي خير من العجب بالطاعة ألا تأتي بالطاعة . و من كلامه ضاحك معترف بذنبه خير من باك مدل على ربه . و من كلامه أوحى الله إلى الدنيا من خدمني فاخدميه و من خدمك فاستخدميه .
[ 96 ]
(85/2)

قيل لرابعة هل عملت عملا ترين أنه يقبل منك قالت إن كان فخوفي أن يرد علي . نظر حبيب إلى مالك بن دينار و هو يقسم صدقته علانية فقال يا أخي إن الكنوز لتستر فما بال هذا يجهر به . قال عمرو بن عبيد للمنصور إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها و إن هذا الذي أصبح اليوم في يدك لو كان مما يبقى على الناس لبقي في يد من كان قبلك و لم يصر إليك فاحذر ليلة تمخض بيوم لا ترى بعده إلا يوم القيامة فبكى المنصور و قال يا أبا عثمان سل حاجة قال حاجتي ألا تعطيني حتى أسألك و لا تدعني حتى أجيئك قال إذن لا نلتقي أبدا قال فذاك أريد . كان يقال الدنيا جاهلة و من جهلها أنها لا تعطي أحدا ما يستحقه إما أن تزيده و إما أن تنقصه . قيل لخالد بن صفوان من أبلغ الناس قال الحسن لقوله فضح الموت الدنيا . قيل لبعض الزهاد كيف سخط نفسك على الدنيا قال أيقنت أني خارج منها كرها فأحببت أن أخرج منها طوعا . مر إبراهيم بن أدهم بباب أبي جعفر المنصور فنظر السلاح و الحرس فقال المريب خائف . قيل لزاهد ما أصبرك على الوحدة قال كلا أنا أجالس ربي إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه و إذا شئت أن أناجيه صليت . كان يقال خف الله لقدرته عليك و استح منه لقربه منك
[ 97 ]
(85/3)

قال الرشيد للفضيل بن عياض ما أزهدك قال أنت يا هارون أزهد مني لأني زهدت في دنيا فانية و زهدت في آخرة باقية . و قال الفضيل يا ربي إني لأستحيي أن أقول توكلت عليك لو توكلت عليك ما خفت إلا منك و لا رجوت إلا إياك . عوتب بعض الزهاد على كثرة التصدق بماله فقال لو أراد رجل أن ينتقل من دار إلى دار ما أظنه كان يترك في الدار الأولى شيئا . قال بعض الملوك لبعض الزهاد ما لك لا تغشى بابي و أنت عبدي قال لو علمت أيها الملك لعلمت أنك عبد عبدي لأني أملك الهوى و الهوى يملكك . دخل متظلم على سليمان بن عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين اذكر يوم الأذان قال و ما يوم الأذان قال اليوم الذي قال تعالى فيه فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ فبكى سليمان و أزال ظلامته . سئل الفضيل بن عياض عن الزهد فقال يجمعه حرفان في كتاب الله لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ . كتب يحيى بن خالد من الحبس إلى الرشيد ما يمر يوم من نعيمك إلا و يمر يوم من بؤسي و كلاهما إلى نفاد . قيل لحاتم الأصم علام بنيت أمرك قال على أربع خصال علمت أن رزقي لا يأكله غيري فلم أهتم به و علمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به و علمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره و علمت أني بعين الله في كل حال فاستحييت منه .
[ 98 ]
(85/4)

نظر بعض الصالحين إلى رجل يفحش في قوله فقال يا هذا إنما تملي على حافظيك كتابا إلى ربك فانظر ما تودعه . كان يقال مثل الدنيا و الآخرة مثل ضرتين لبعل واحد إن أرضى هذه أسخط الأخرى . قيل لبعضهم ما مثل الدنيا قال هي أقل من أن يكون لها مثل . دخل لص على بعض الزهاد الصالحين فلم ير في داره شيئا فقال له يا هذا أين متاعك قال حولته إلى الدار الأخرى . قيل للربيع بن خيثم يا ربيع ما نراك تذم أحدا فقال ما أنا عن نفسي براض فأتحول من ذمي إلى ذم الناس إن الناس خافوا الله على ذنوب العباد و أمنوه على ذنوبهم . قال عيسى بن موسى لأبي شيبة القاضي لم لا تأتينا قال إن قربتني فتنتني و إن أقصيتني أحزنتني و ليس عندي ما أخافك عليه و لا عندك ما أرجوك له . من كلام بعض الزهاد تأمل ذا الغنى ما أشد نصبه و أقل راحته و أخس من ماله حظه و أشد من الأيام حذره هو بين سلطان يتهضمه و عدو يبغي عليه و حقوق تلزمه و أكفاء يحسدونه و ولد يود فراقه قد بعث عليه غناه من سلطانه العنت و من أكفائه الحسد و من أعدائه البغي و من ذوي الحقوق الذم و من الولد الملالة . و من كلام سفيان الثوري يا ابن آدم جوارحك سلاح الله عليك بأيها شاء قتلك . ميمون بن مهران في قوله تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ اَللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ اَلظَّالِمُونَ قال إنها لتعزية للمظلوم و وعيد للظالم .
[ 99 ]
(85/5)

دخل عبد الوارث بن سعيد على مريض يعوده فقال له ما نمت منذ أربعين ليلة فقال يا هذا أحصيت ليالي البلاء فهل أحصيت ليالي الرخاء . بعضهم وا عجباه لمن يفرح بالدنيا فإنما هي عقوبة ذنب . ابن السماك خف الله حتى كأنك لم تطعه قط و ارجه حتى كأنك لم تعصه قط . بعضهم العلماء أطباء هذا الخلق و الدنيا داء هذا الخلق فإذا كان الطبيب يطلب الداء فمتى يبرئ غيره . قيل لمحمد بن واسع فلان زاهد قال و ما قدر الدنيا حتى يحمد من يزهد فيها رئي عبد الله بن المبارك واقفا بين مقبرة و مزبلة فقيل له ما أوقفك قال أنا بين كنزين من كنوز الدنيا فيهما عبرة هذا كنز الأموال و هذا كنز الرجال . قيل لبعضهم أتعبت نفسك فقال راحتها أطلب . دخل الإسكندر مدينة فتحها فسأل عمن بقي من أولاد الملوك بها فقيل رجل يسكن المقابر فدعا به فقال ما دعاك إلى لزوم هذه المقابر فقال أحببت أن أميز بين عظام الملوك و عظام عبيدهم فوجدتها سواء فقال هل لك أن تتبعني فأحيا شرفك و شرف آبائك إن كانت لك همة قال همتي عظيمة قال و ما همتك قال حياة لا موت معها و شباب لا هرم معه و غنى لا فقر معه و سرور لا مكروه معه فقال ليس هذا عندي قال فدعني ألتمسه ممن هو عنده . مات ابن لعمر بن ذر فقال لقد شغلني الحزن لك يا بني عن الحزن عليك . كان يقال من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها و لا ينال ما عنده إلا بتركها . و من كلام عبد الله بن شداد أرى دواعي الموت لا تقلع و أرى من مضى لا يرجع
[ 100 ]
(85/6)

فلا تزهدن في معروف فإن الدهر ذو صروف كم من راغب قد كان مرغوبا إليه و الزمان ذو ألوان من يصحب الزمان ير الهوان و إن غلبت يوما على المال فلا تغلبن علي الحيلة على كل حال و كن أحسن ما تكون في الظاهر حالا أقل ما تكون في الباطن مآلا . كان يقال إن مما يعجل الله تعالى عقوبته الأمانة تخان و الإحسان يكفر و الرحم تقطع و البغي على الناس . الربيع بن خيثم لو كانت الذنوب تفوح روائحها لم يجلس أحد إلى أحد . قيل لبعضهم كيف أصبحت قال آسفا على أمسي كارها ليومي متهما لغدي . و قيل لآخر لم تركت الدنيا قال أنفت من قليلها و أنف مني كثيرها و هذا كما قال بعضهم و قد قيل له لم لا تقول الشعر قال يأباني جيده و آبى رديئه . بعض الصالحين لو أنزل الله تعالى كتابا أني معذب رجلا واحدا خفت أن أكونه أو أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه . مطرف بن الشخير خير الأمور أوساطها و شر السير الحقحقة و هذا الكلام قد روي مرفوعا . يحيى بن معاذ أن لله عليك نعمتين في السراء التذكر و في الضراء التصبر فكن في السراء عبدا شكورا و في الضراء حرا صبورا . دخل ابن السماك على الرشيد فقال له عظني ثم دعا بماء ليشربه فقال له ناشدتك الله لو منعك الله من شربه ما كنت فاعلا قال كنت أفتديه بنصف ملكي قال فاشربه فلما شرب قال ناشدتك الله لو منعك الله من خروجه ما كنت فاعلا قال كنت أفتديه بنصف ملكي قال إن ملكا يفتدى به شربة ماء لخليق ألا ينافس عليه . قال المنصور لعمرو بن عبيد رحمه الله تعالى عظني قال بما رأيت أم بما سمعت
[ 101 ]
(85/7)

قال بما رأيت قال رأيت عمر بن عبد العزيز و قد مات فخلف أحد عشر ابنا و بلغت تركته سبعة عشر دينارا كفن منها بخمسة دنانير و اشتري موضع قبره بدينارين و أصاب كل واحد من ولده دون الدينار ثم رأيت هشام بن عبد الملك و قد مات و خلف عشرة ذكور فأصاب كل واحد من ولده ألف ألف دينار و رأيت رجلا من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله و رأيت رجلا من ولد هشام يسأل الناس ليتصدقوا عليه . حسان بن أبي سنان ما شي ء أهون من ورع إذا رابك شي ء فدعه . مورق العجلي لقد سألت الله حاجة أربعين سنة ما قضاها و لا يئست منها قيل و ما هي قال ترك ما لا يعنيني . قتادة إن الله ليعطي العبد على نية الآخرة ما يسأله من الدنيا و لا يعطيه على نية الدنيا إلا الدنيا . من كلام محمد بن واسع ليس في النار عذاب أشد على أهلها من علمهم بأنه ليس لكربهم تنفيس و لا لضيقتهم ترفيه و لا لعذابهم غاية و ليس في الجنة نعيم أبلغ من علم أهلها بأن ذلك الملك لا يزول عنهم . قال بعض الملوك لبعض الزهاد أذمم لي الدنيا قال أيها الملك هي الآخذة لما تعطي المورثة بعد ذلك الندم السالبة ما تكسو المورثة بعد ذلك الفضوح تسد بالأراذل مكان الأفاضل و بالعجزة مكان الحزمة تجد في كل من كل خلفا و ترضى بكل من كل بدلا تسكن دار كل قرن قرنا و تطعم سؤر كل قوم قوما . و من كلام الحجاج و كان مع غشمه و إلحاده واعظا بليغا مفوها خطب فقال اللهم أرني الغي غيا فأتجنبه و أرني الهدى هدى فأتبعه و لا تكلني إلى نفسي فأضل
[ 102 ]
(85/8)

ضلالا بعيدا و الله ما أحب أن ما مضى من الدنيا بعمامتي هذه و لما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء و قال مالك بن دينار غدوت إلى الجمعة فجلست قريبا من المنبر فصعد الحجاج فسمعته يقول امرؤ زور عمله امرؤ حاسب نفسه امرؤ فكر فيما يقرؤه في صحيفته و يراه في ميزانه امرؤ كان عند قلبه زاجر و عند همه آمر امرؤ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطام جمله فإن قاده إلى طاعة الله تبعه و إن قاده إلى معصية الله كفه إننا و الله ما خلقنا للفناء و إنما خلقنا للبقاء و إنما ننتقل من دار إلى دار . و خطب يوما فقال إن الله أمرنا بطلب الآخرة و كفانا مئونة الدنيا فليته كفانا مئونة الآخرة و أمرنا بطلب الدنيا فقال الحسن ضالة المؤمن خرجت من قلب المنافق . و من الكلام المنسوب إليه و أكثر الناس يروونه
عن أمير المؤمنين ع أيها الناس اقدعوا هذه الأنفس فإنها أسأل شي ء إذا أعطيت و أبخل لشي ء إذا سئلت فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطاما و زماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله و عطفها بزمامها عن معصية الله فإني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله . و من كلامه أن امرأ أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيها ربه و يستغفر من ذنبه و يفكر في معاده لجدير أن يطول حزنه و يتضاعف أسفه إن الله كتب على الدنيا الفناء و على الآخرة البقاء فلا بقاء لما كتب عليه الفناء و لا فناء لما كتب عليه البقاء فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة و اقهروا طول الأمل بقصر الأجل .
[ 103 ]
(85/9)

و نقلت من أمالي أبي أحمد العسكري رحمه الله تعالى قال خطب الحجاج يوما فقال أيها الناس قد أصبحتم في أجل منقوص و عمل محفوظ رب دائب مضيع و ساع لغيره و الموت في أعقابكم و النار بين أيديكم و الجنة أمامكم خذوا من أنفسكم لأنفسكم و من غناكم لفقركم و مما في أيديكم لما بين أيديكم فكان ما قد مضى من الدنيا لم يكن و كان الأموات لم يكونوا أحياء و كل ما ترونه فإنه ذاهب هذه شمس عاد و ثمود و قرون كثيرة بين ذلك هذه الشمس التي طلعت على التبابعة و الأكاسرة و خزائنهم السائرة بين أيديهم و قصورهم المشيدة ثم طلعت على قبورهم أين الملوك الأولون أين الجبابرة المتكبرون المحاسب الله و الصراط منصوب و جهنم تزفر و تتوقد و أهل الجنة ينعمون هم في روضة يحبرون جعلنا الله و إياكم من الذين إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً . قال فكان الحسن رحمه الله تعالى يقول أ لا تعجبون من هذا الفاجر يرقى عتبات المنبر فيتكلم بكلام الأنبياء و ينزل فيفتك فتك الجبارين يوافق الله في قوله و يخالفه في فعله
(85/10)

استطراد بلاغي في الكلام على المقابلة
و أما ما ذكره الرضي رحمه الله تعالى من المقابلة بين السبقة و الغاية فنكته جيدة من علم البيان و نحن نذكر فيها أبحاثا نافعة فنقول إما أن يقابل الشي ء ضده أو ما ليس بضده . فالأول كالسواد و البياض و هو قسمان أحدهما مقابله في اللفظ و المعنى .
[ 104 ]
و الثاني مقابله في المعنى لا في اللفظ . أما الأول فكقوله تعالى فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً فالضحك ضد البكاء و القليل ضد الكثير و كذلك قوله تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ
و من كلام النبي ص خير المال عين ساهرة لعين نائمة
و من كلام أمير المؤمنين ع لعثمان أن الحق ثقيل مري ء و أن الباطل خفيف وبي ء و أنت رجل إن صدقت سخطت و إن كذبت رضيت
و كذلك قوله ع لما قالت الخوارج لا حكم إلا لله كلمة حق أريد بها باطل و قال الحجاج لسعيد بن جبير لما أراد قتله ما اسمك فقال سعيد بن جبير فقال بل شقي بن كسير . و قال ابن الأثير في كتابه المسمى بالمثل السائر إن هذا النوع من المقابلة غير مختص بلغة العرب فإنه لما مات قباذ أحد ملوك الفرس قال وزيره حركنا بسكونه . و في أول كتاب الفصول لبقراط في الطب العمر قصير و الصناعة طويلة و هذا الكتاب على لغة اليونان . قلت أي حاجة به إلى هذا التكلف و هل هذه الدعوى من الأمور التي يجوز أن يعتري الشك و الشبهة فيها ليأتي بحكاية مواضع من غير كلام العرب يحتج بها أ ليس كل قبيلة و كل أمة لها لغة تختص بها أ ليس الألفاظ دلالات على ما في الأنفس
[ 105 ]
(86/1)

من المعاني فإذا خطر في النفس كلام يتضمن أمرين ضدين فلا بد لصاحب ذلك الخاطر سواء أ كان عربيا أم فارسيا أم زنجيا أم حبشيا أن ينطق بلفظ يدل على تلك المعاني المتضادة و هذا أمر يعم العقلاء كلهم على أن تلك اللفظة التي قالها ما قيلت في موت قباذ و إنما قيلت في موت الإسكندر لما تكلمت الحكماء و هم حول تابوته بما تكلموا به من الحكم . و مما جاء من هذا القسم من المقابلة في الكتاب العزيز قوله تعالى في صفة الواقعة خافِضَةٌ رافِعَةٌ لأنها تخفض العاصين و ترفع المطيعين . و قوله تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ اَلرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ اَلْعَذابُ . و قوله أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكافِرِينَ . و من هذا الباب
قول النبي ص للأنصار إنكم لتكثرون عند الفزع و تقلون عند الطمع . و مما جاء من ذلك في الشعر قول الفرزدق يهجو قبيلة جرير
يستيقظون إلى نهيق حميرهم
و تنام أعينهم عن الأوتار
و قال آخر
فلا الجود يفني المال و الجد مقبل
و لا البخل يبقي المال و الجد مدبر
[ 106 ]
و قال أبو تمام
ما إن ترى الأحساب بيضا وضحا
إلا بحيث ترى المنايا سودا
و كذلك قال من هذه القصيدة أيضا
شرف على أولى الزمان و إنما
خلق المناسب ما يكون جديدا
و أما القسم الثاني من القسم الأول و هو مقابلة الشي ء بضده بالمعنى لا باللفظ فكقول المقنع الكندي
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى
و إن قل مالي لا أكلفهم رفدا
فقوله إن تتابع لي غنى في قوة قوله إن كثر مالي و الكثرة ضد القلة فهو إذن مقابل بالمعنى لا باللفظ بعينه . و من هذا الباب قول البحتري
تقيض لي من حيث لا أعلم النوى
و يسري إلي الشوق من حيث أعلم
فقوله لا أعلم ليس ضدا لقوله أعلم لكنه نقيض له و في قوة قوله أجهل و الجهل ضد العلم . و من لطيف ما وقعت المقابلة به من هذا النوع قول أبي تمام
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس
(86/2)

قنا الخط إلا أن تلك ذوابل
[ 107 ]
فقابل بين هاتا و بين تلك و هي مقابلة معنوية لا لفظية لأن هاتا للحاضرة و تلك للغائبة و الحضور ضد الغيبة . و أما مقابلة الشي ء لما ليس بضده فإما أن يكون مثلا أو مخالفا . و الأول على ضربين مقابلة المفرد بالمفرد و مقابلة الجملة بالجملة . مثال مقابلة المفرد بالمفرد قوله تعالى نَسُوا اَللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ و قوله وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً هكذا قال نصر الله بن الأثير . قال و هذا مراعى في القرآن الكريم إذا كان جوابا كما تقدم من الآيتين و كقوله وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها و قوله مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ . قال و قد كان يجوز أن يقول من كفر فعليه ذنبه لكن الأحسن هو إعادة اللفظ فأما إذا كان غير جواب لم تلزم فيه هذه المراعاة اللفظية بل قد تقابل اللفظة بلفظة تفيد معناها و إن لم تكن هي بعينها نحو قوله تعالى وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فقال يفعلون و لم يقل يعملون . و كذلك قوله تعالى فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ و لم يقل قالوا لا تفزع . و كذلك قوله تعالى إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ و لم يقل كنتم تخوضون و تلعبون .
[ 108 ]
قال و نحو ذلك من الأبيات الشعرية قول أبي تمام
بسط الرجاء لنا برغم نوائب
كثرت بهن مصارع الآمال
فقال الآمال عوض الرجاء قال أبو الطيب
إني لأعلم و اللبيب خبير
أن الحياة و إن حرصت غرور
(86/3)

فقال خبير و لم يقل عليم . قال و إنما حسن ذلك لأنه ليس بجواب و إنما هو كلام مبتدأ . قلت الصحيح أن هذه الآيات و هي قوله تعالى نَسُوا اَللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ و ما شابهها ليست من باب المقابلة التي نحن في ذكرها و أنها نوع آخر و لو سميت المماثلة أو المكافأة لكان أولى و الدليل على ذلك أن هذا الرجل حد المقابلة في أول الباب الذي ذكر هذا البحث فيه فقال إنها ضد التجنيس لأن التجنيس أن يكون اللفظ واحدا مختلف المعنى و هذه لا بد أن تتضمن معنيين ضدين و إن كان التضاد مأخوذا في حدها فقد خرجت هذه الآيات من باب المقابلة و كانت نوعا آخر . و أيضا فإن قوله تعالى وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً ليس من سلك الآيات الأخرى لأنه بالواو و الآيات الأخرى بالفاء و الفاء جواب و الواو ليست بجواب . و أيضا فإنا إذا تأملنا القرآن العزيز لم نجد ما ذكره هذا الرجل مطردا قال تعالى أَمَّا مَنِ اِسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَ ما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَ هُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى فلم يقل في الثانية و أما من جاءك يسعى و هو فقير . و قال تعالى فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اِتَّقى وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَ أَمَّا مَنْ
[ 109 ]
(86/4)

بَخِلَ وَ اِسْتَغْنى وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى فقابل بين أعطى و بخل و لم يقابل بين اتقى و استغنى و مثل هذا في القرآن العزيز كثير و أكثر من الكثير . و قد بان الآن أن التقسيم الأول فاسد و أنه لا مقابلة إلا بين الأضداد و ما يجري مجراها . و أما مقابلة الجملة بالجملة في تقابل المتماثلين فإنه إذا كانت إحداهما في معنى الأخرى وقعت المقابلة و الأغلب أن تقابل الجملة الماضية بالماضية و المستقبلة بالمستقبلة . و قد تقابل الجملة الماضية بالمستقبلة فمن ذلك قوله تعالى قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي فإن هذا تقابل من جهة المعنى لأنه لو كان من جهة اللفظ لقال و إن اهتديت فإنما أهتدي لها . و وجه التقابل المعنوي هو أن كل ما على النفس فهو بها أعني كل ما هو عليها وبال و ضرر فهو منها و بسببها لأنها الأمارة بالسوء و كل ما لها مما ينفعها فهو بهداية ربها و توفيقه لها . و من ذلك قوله تعالى أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهارَ مُبْصِراً فإنه لم يراع التقابل اللفظي و لو راعاه لقال و النهار ليبصروا فيه و إنما المراعاة لجانب المعنى لأن معنى مبصرا ليبصروا فيه طرق التقلب في الحاجات . و أما مقابلة المخالف فهو على وجهين . أحدهما أن يكون بين المقابل و المقابل نوع مناسبة و تقابل كقول القائل
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
و من إساءة أهل السوء إحسانا
[ 110 ]
(86/5)

فقابل الظلم بالمغفرة و هي مخالفة له ليست مثله و لا ضده و إنما الظلم ضد العدل إلا أنه لما كانت المغفرة قريبة من العدل حسنت المقابلة بينها و بين الظلم و نحو هذا قوله تعالى أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ فإن الرحمة ليست ضدا للشدة و إنما ضد الشدة اللين إلا أنه لما كانت الرحمة سببا للين حسنت المقابلة بينها و بين الشدة . و كذلك قوله تعالى إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا فإن المصيبة أخص من السيئة فالتقابل هاهنا من جهة العموم و الخصوص . الوجه الثاني ما كان بين المقابل و المقابل بعد و ذلك مما لا يحسن استعماله كقول امرأة من العرب لابنها و قد تزوج بامرأة غير محمودة
تربص بها الأيام عل صروفها
سترمي بها في جاحم متسعر
فكم من كريم قد مناه إلهه
بمذمومة الأخلاق واسعة الحر
فمذمومة ليست في مقابلة واسعة و لو كانت قالت بضيقة الأخلاق كانت المقابلة صحيحة و الشعر مستقيما و كذلك قول المتنبي
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها
سرور محب أو مساءة مجرم
فالمقابلة الصحيحة بين المحب و المبغض لا بين المحب و المجرم . قلت إن لقائل أن يقول هلا قلت في هذا ما قلت في السيئة و المصيبة أ لست القائل إن التقابل حسن بين المصيبة و السيئة لكنه تقابل العموم و الخصوص و هذا الموضع مثله أيضا لأن كل مبغض لك مجرم إليك لأن مجرد البغضة جرم ففيهما عموم و خصوص . بل لقائل أن يقول كل مجرم مبغض و كل مبغض مجرم و هذا صحيح مطرد
[ 111 ]
(86/6)

29 ـ و من خطبة له ع
أَيُّهَا اَلنَّاسُ اَلْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ اَلْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ كَلاَمُكُمْ يُوهِي اَلصُّمَّ اَلصِّلاَبَ وَ فِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ اَلْأَعْدَاءَ تَقُولُونَ فِي اَلْمَجَالِسِ [ مَجَالِسِكُمْ ] كَيْتَ وَ كَيْتَ فَإِذَا جَاءَ اَلْقِتَالُ قُلْتُمْ حِيدِي حَيَادِ مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ وَ لاَ اِسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ وَ سَأَلْتُمُونِي اَلتَّطْوِيلَ دِفَاعَ ذِي اَلدَّيْنِ اَلْمَطُولِ لاَ يَمْنَعُ اَلضَّيْمَ اَلذَّلِيلُ وَ لاَ يُدْرَكُ اَلْحَقُّ إِلاَّ بِالْجِدِّ أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ وَ مَعَ أَيِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ اَلْمَغْرُورُ وَ اَللَّهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ وَ مَنْ فَازَ بِكُمْ فَقَدْ فَازَ وَ اَللَّهِ بِالسَّهْمِ اَلْأَخْيَبِ وَ مَنْ رَمَى بِكُمْ فَقَدْ رَمَى بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ أَصْبَحْتُ وَ اَللَّهِ لاَ أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ وَ لاَ أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ وَ لاَ أُوعِدُ اَلْعَدُوَّ بِكُمْ مَا بَالُكُمْ مَا دَوَاؤُكُمْ مَا طِبُّكُمْ اَلْقَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ أَ قَوْلاً بِغَيْرِ عِلْمٍ [ عَمَلٍ ] وَ غَفْلَةٍ مِنْ غَيْرِ وَرَعٍ [ عِفَّةٍ ] وَ طَمَعاً فِي غَيْرِ حَقٍّ حيدي حياد كلمة يقولها الهارب الفار و هي نظيرة قولهم فيحي فياح
[ 112 ]
(87/1)

أي اتسعي و صمي صمام للداهية و أصلها من حاد عن الشي ء أي انحرف و حياد مبنية على الكسر و كذلك ما كان من بابها نحو قولهم بدار أي ليأخذ كل واحد قرنه و قولهم خراج في لعبة للصبيان أي اخرجوا . و الباء في قوله بأضاليل متعلقة بأعاليل نفسها أي يتعللون بالأضاليل التي لا جدوى لها . و السهم الأفوق المكسور الفوق و هو مدخل الوتر و الناصل الذي لا نصل فيه يخاطبهم فيقول لهم أبدانكم مجتمعة و أهواؤكم مختلفة متكلمون بما هو في الشدة و القوة يوهي الجبال الصم الصلبة و عند الحرب يظهر أن ذلك الكلام لم يكن له ثمرة . تقولون في المجالس كيت و كيت أي سنفعل و سنفعل و كيت و كيت كناية عن الحديث كما كني بفلان عن العلم و لا تستعمل إلا مكررة و هما مخففان من كية و قد استعملت على الأصل و هي مبنية على الفتح و قد روى أئمة العربية فيها الضم و الكسر أيضا . فإذا جاء القتال فررتم و قلتم الفرار الفرار . ثم أخذ في الشكوى فقال من دعاكم لم تعز دعوته و من قاساكم لم يسترح قلبه دأبكم التعلل بالأمور الباطلة و الأماني الكاذبة و سألتموني الإرجاء و تأخر الحرب كمن يمطل بدين لازم له و الضيم لا يدفعه الذليل و لا يدرك الحق إلا بالجد فيه و الاجتهاد و عدم الانكماش . و باقي الفصل ظاهر المعنى .
[ 113 ]
و قوله القوم رجال أمثالكم مثل قول الشاعر
قاتلوا القوم يا خزاع و لا
يدخلكم من قتالهم فشل
القوم أمثالكم لهم شعر
في الرأس لا ينشرون إن قتلوا
و هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ع في غارة الضحاك بن قيس و نحن نقصها هنا
(87/2)

غارة الضحاك بن قيس و نتف من أخباره
روى إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب الغارات قال كانت غارة الضحاك بن قيس بعد الحكمين و قبل قتال النهروان و ذلك أن معاوية لما بلغه أن عليا ع بعد واقعة الحكمين تحمل إليه مقبلا هاله ذلك فخرج من دمشق معسكرا و بعث إلى كور الشام فصاح بها أن عليا قد سار إليكم و كتب إليهم نسخة واحدة فقرئت على الناس . أما بعد فإنا كنا كتبنا كتابا بيننا و بين علي و شرطنا فيه شروطا و حكمنا رجلين يحكمان علينا و عليه بحكم الكتاب لا يعدوانه و جعلنا عهد الله و ميثاقه على من نكث العهد و لم يمض الحكم و إن حكمي الذي كنت حكمته أثبتني و إن حكمه خلعه و قد أقبل إليكم ظالما فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ تجهزوا للحرب بأحسن الجهاز و أعدوا آلة القتال و أقبلوا خفافا و ثقالا يسرنا الله و إياكم لصالح الأعمال
[ 114 ]
(88/1)

فاجتمع إليه الناس من كل كورة و أرادوا المسير إلى صفين فاستشارهم و قال إن عليا قد خرج من الكوفة و عهد العاهد به أنه فارق النخيلة . فقال حبيب بن مسلمة فإني أرى أن نخرج حتى ننزل منزلنا الذي كنا فيه فإنه منزل مبارك و قد متعنا الله به و أعطانا من عدونا فيه النصف . و قال عمرو بن العاص إني أرى لك أن تسير بالجنود حتى توغلها في سلطانهم من أرض الجزيرة فإن ذلك أقوى لجندك و أذل لأهل حربك فقال معاوية و الله إني لأعرف أن الذي تقول كما تقول و لكن الناس لا يطيقون ذلك قال عمرو إنها أرض رفيقة فقال معاوية إن جهد الناس أن يبلغوا منزلهم الذي كانوا به يعني صفين . فمكثوا يجيلون الرأي يومين أو ثلاثة حتى قدمت عليهم عيونهم أن عليا اختلف عليه أصحابه ففارقته منهم فرقة أنكرت أمر الحكومة و أنه قد رجع عنكم إليهم . فكبر الناس سرورا لانصرافه عنهم و ما ألقى الله عز و جل من الخلاف بينهم فلم يزل معاوية معسكرا في مكانه منتظرا لما يكون من علي و أصحابه و هل يقبل بالناس أم لا فما برح حتى جاء الخبر أن عليا قد قتل أولئك الخوارج و أنه أراد بعد قتلهم أن يقبل بالناس و أنهم استنظروه و دافعوه فسر بذلك هو و من قبله من الناس . قال و روى ابن أبي سيف عن يزيد بن يزيد بن جابر عن عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري قال جاءنا كتاب عمارة بن عقبة بن أبي معيط و كان بالكوفة مقيما و نحن معسكرون مع معاوية نتخوف أن يفرغ علي من الخوارج ثم يقبل إلينا و نحن نقول إن أقبل إلينا كان أفضل المكان الذي نستقبله به المكان الذي لقيناه فيه العام الماضي فكان في كتاب عمارة بن عقبة أما بعد فإن عليا خرج عليه قراء
[ 115 ]
(88/2)

أصحابه و نساكهم فخرج إليهم فقتلهم و قد فسد عليه جنده و أهل مصره و وقعت بينهم العداوة و تفرقوا أشد الفرقة و أحببت إعلامك لتحمد الله و السلام . قال عبد الرحمن بن مسعدة فقرأه معاوية على وجه أخيه عتبة و على الوليد بن عقبة و على أبي الأعور السلمي ثم نظر إلى أخيه عتبة و إلى الوليد بن عقبة و قال للوليد لقد رضي أخوك أن يكون لنا عينا فضحك الوليد و قال إن في ذلك أيضا لنفعا . و روى أبو جعفر الطبري قال كان عمارة مقيما بالكوفة بعد قتل عثمان لم يهجه علي ع و لم يذعره و كان يكتب إلى معاوية بالأخبار سرا . و من شعر الوليد لأخيه عمارة يحرضه
إن يك ظني في عمارة صادقا
ينم ثم لا يطلب بذحل و لا وتر
يبيت و أوتار ابن عفان عنده
مخيمة بين الخورنق فالقصر
تمشي رخي البال مستشزر القوى
كأنك لم تسمع بقتل أبي عمرو
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة
قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
قال فأجابه الفضل بن العباس بن عتبة
أ تطلب ثأرا لست منه و لا له
و ما لابن ذكوان الصفوري و الوتر
[ 116 ]
كما افتخرت بنت الحمار بأمها
و تنسى أباها إذ تسامى أولو الفخر
ألا إن خير الناس بعد نبيهم
وصي النبي المصطفى عند ذي الذكر
و أول من صلى و صنو نبيه
و أول من أردى الغواة لدى بدر
(88/3)

أما معنى قوله و ما لابن ذكوان الصفوري فإن الوليد هو ابن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو و اسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس و قد ذكر جماعة من النسابين أن ذكوان كان مولى لأمية بن عبد شمس فتبناه و كناه أبا عمرو فبنوه موال و ليسوا من بني أمية لصلبه و الصفوري منسوب إلى صفورية قرية من قرى الروم . قال إبراهيم بن هلال الثقفي فعند ذلك دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري و قال له سر حتى تمر بناحية الكوفة و ترتفع عنها ما استطعت فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي فأغر عليه و إن وجدت له مسلحة أو خيلا فأغر عليها و إذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى و لا تقيمن لخيل بلغك أنها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف . فأقبل الضحاك فنهب الأموال و قتل من لقي من الأعراب حتى مر بالثعلبية
[ 117 ]
فأغار على الحاج فأخذ أمتعتهم ثم أقبل فلقي عمرو بن عميس بن مسعود الهذلي و هو ابن أخي عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله ص فقتله في طريق الحاج عند القطقطانة و قتل معه ناسا من أصحابه . قال فروى إبراهيم بن مبارك البجلي عن أبيه عن بكر بن عيسى عن أبي روق قال حدثني أبي قال سمعت عليا ع و قد خرج إلى الناس و هو يقول على المنبر يا أهل الكوفة اخرجوا إلى العبد الصالح عمرو بن عميس و إلى جيوش لكم قد أصيب منهم طرف اخرجوا فقاتلوا عدوكم و امنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين . فردوا عليه ردا ضعيفا و رأى منهم عجزا و فشلا فقال و الله لوددت أن لي بكل ثمانية منكم رجلا منهم ويحكم اخرجوا معي ثم فروا عني ما بدا لكم فو الله ما أكره لقاء ربي على نيتي و بصيرتي و في ذلك روح لي عظيم و فرج من مناجاتكم و مقاساتكم ثم نزل . فخرج يمشي حتى بلغ الغريين ثم دعا حجر بن عدي الكندي فعقد له على أربعة آلاف . و روى محمد بن يعقوب الكليني قال استصرخ أمير المؤمنين ع الناس عقيب غارة الضحاك بن قيس الفهري على أطراف أعماله فتقاعدوا عنه فخطبهم فقال
(88/4)

ما عزت دعوة من دعاكم
و لا استراح قلب من قاساكم
الفصل إلى آخره . قال إبراهيم الثقفي فخرج حجر بن عدي حتى مر بالسماوة و هي أرض كلب
[ 118 ]
فلقي بها إمرأ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم الكلبي و هم أصهار الحسين بن علي بن أبي طالب ع فكانوا أدلاءه في الطريق و على المياه فلم يزل مغذا في أثر الضحاك حتى لقيه بناحية تدمر فواقعه فاقتتلوا ساعة فقتل من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلا و قتل من أصحاب حجر رجلان و حجز الليل بينهم فمضى الضحاك فلما أصبحوا لم يجدوا له و لأصحابه أثرا و كان الضحاك يقول بعد أنا ابن قيس أنا أبو أنيس أنا قاتل عمرو بن عميس . قال و كتب في أثر هذه الوقعة عقيل بن أبي طالب إلى أخيه أمير المؤمنين ع حين بلغه خذلان أهل الكوفة و تقاعدهم به . لعبد الله علي أمير المؤمنين ع من عقيل بن أبي طالب سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن الله حارسك من كل سوء و عاصمك من كل مكروه و على كل حال إني قد خرجت إلى مكة معتمرا فلقيت عبد الله بن سعد بن أبي سرح في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء فعرفت المنكر في وجوههم فقلت إلى أين يا أبناء الشانئين أ بمعاوية تلحقون عداوة و الله منكم قديما غير مستنكرة تريدون بها إطفاء نور الله و تبديل أمره فأسمعني القوم و أسمعتهم فلما قدمت مكة سمعت أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالها ما شاء ثم انكفأ راجعا سالما فأف لحياة في دهر جرأ عليك الضحاك و ما الضحاك فقع بقرقر و قد توهمت حيث بلغني ذلك أن شيعتك و أنصارك خذلوك فاكتب إلي يا ابن أمي برأيك فإن كنت الموت تريد تحملت إليك ببني أخيك
[ 119 ]
و ولد أبيك فعشنا معك ما عشت و متنا معك إذا مت فو الله ما أحب أن أبقى في الدنيا بعدك فواقا . و أقسم بالأعز الأجل أن عيشا نعيشه بعدك في الحياة لغير هني ء و لا مري ء و لا نجيع و السلام عليك و رحمة الله و بركاته
(88/5)

فكتب إليه ع من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عقيل بن أبي طالب سلام الله عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد كلأنا الله و إياك كلاءة من يخشاه بالغيب إنه حميد مجيد قد وصل إلي كتابك مع عبد الرحمن بن عبيد الأزدي تذكر فيه أنك لقيت عبد الله بن سعد بن أبي سرح مقبلا من قديد في نحو من أربعين فارسا من أبناء الطلقاء متوجهين إلى جهة الغرب و أن ابن أبي سرح طالما كاد الله و رسوله و كتابه و صد عن سبيله و بغاها عوجا فدع ابن أبي سرح و دع عنك قريشا و خلهم و تركاضهم في الضلال و تجوالهم في الشقاق ألا و إن العرب قد أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب رسول الله ص قبل اليوم فأصبحوا قد جهلوا حقه و جحدوا فضله و بادروه العداوة و نصبوا له الحرب و جهدوا عليه كل الجهد و جروا إليه جيش الأحزاب اللهم فاجز قريشا عني الجوازي فقد قطعت رحمي و تظاهرت على و دفعتني عن حقي و سلبتني سلطان ابن أمي و سلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول و سابقتي في الإسلام إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه و لا أظن الله يعرفه و الحمد لله على كل حال فأما ما ذكرته من غارة الضحاك على أهل الحيرة فهو أقل و أزل من أن يلم بها
[ 120 ]
(88/6)

أو يدنو منها و لكنه قد كان أقبل في جريدة خيل فأخذ على السماوة حتى مر بواقصة و شراف و القطقطانة مما والى ذلك الصقع فوجهت إليه جندا كثيفا من المسلمين فلما بلغه ذلك فر هاربا فاتبعوه فلحقوه ببعض الطريق و قد أمعن و كان ذلك حين طفلت الشمس للإياب فتناوشوا القتال قليلا كلا و لا فلم يصبر لوقع المشرفية و ولى هاربا و قتل من أصحابه بضعة عشر رجلا و نجا جريضا بعد ما أخذ منه بالمخنق فلأيا بلأي ما نجا فأما ما سألتني أن أكتب لك برأيي فيما أنا فيه فإن رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله لا يزيدني كثرة الناس معي عزة و لا تفرقهم عني وحشة لأنني محق و الله مع المحق و و الله ما أكره الموت على الحق و ما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا و أما ما عرضت به من مسيرك إلي ببنيك و بني أبيك فلا حاجة لي في ذلك فأقم راشدا محمودا فو الله ما أحب أن تهلكوا معي إن هلكت و لا تحسبن ابن أمك و لو أسلمه الناس متخشعا و لا متضرعا إنه لكما قال أخو بني سليم
فإن تسأليني كيف أنت فإنني
صبور على ريب الزمان صليب
يعز علي أن ترى بي كآبة
فيشمت عاد أو يساء حبيب
قال إبراهيم بن هلال الثقفي و ذكر محمد بن مخنف أنه سمع الضحاك بن قيس بعد ذلك بزمان يخطب على منبر الكوفة و قد كان بلغه أن قوما من أهلها يشتمون عثمان
[ 121 ]
(88/7)

و يبرءون منه قال فسمعته يقول بلغني أن رجالا منكم ضلالا يشتمون أئمة الهدى و يعيبون أسلافنا الصالحين أما و الذي ليس له ند و لا شريك لئن لم تنتهوا عما يبلغني عنكم لأضعن فيكم سيف زياد ثم لا تجدونني ضعيف السورة و لا كليل الشفرة أما إني لصاحبكم الذي أغرت على بلادكم فكنت أول من غزاها في الإسلام و شرب من ماء الثعلبية و من شاطئ الفرات أعاقب من شئت و أعفو عمن شئت لقد ذعرت المخدرات في خدورهن و إن كانت المرأة ليبكي ابنها فلا ترهبه و لا تسكته إلا بذكر اسمي فاتقوا الله يا أهل العراق أنا الضحاك بن قيس أنا أبو أنيس أنا قاتل عمرو بن عميس فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد فقال صدق الأمير و أحسن القول ما أعرفنا و الله بما ذكرت و لقد لقيناك بغربي تدمر فوجدناك شجاعا مجربا صبورا ثم جلس و قال أ يفخر علينا بما صنع ببلادنا أول ما قدم و ايم الله لأذكرنه أبغض مواطنه إليه قال فسكت الضحاك قليلا و كأنه خزي و استحيا ثم قال نعم كان ذلك اليوم فأخذه بكلام ثقيل ثم نزل . قال محمد بن مخنف فقلت لعبد الرحمن بن عبيد أو قيل له لقد اجترأت حين تذكره هذا اليوم و تخبره أنك كنت فيمن لقيه فقال لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا . قال و سأل الضحاك عبد الرحمن بن عبيد حين قدم الكوفة فقال لقد رأيت منكم بغربي تدمر رجلا ما كنت أرى أن في الناس مثله حمل علينا فما كذب حتى ضرب الكتيبة التي أنا فيها فلما ذهب ليولي حملت عليه فطعنته فوقع ثم قام
[ 122 ]
(88/8)

فلم يضره شيئا ثم لم يلبث أن حمل علينا في الكتيبة التي أنا فيها فصرع رجلا ثم ذهب لينصرف فحملت عليه فضربته على رأسه بالسيف فخيل إلي أن سيفي قد ثبت في عظم رأسه فضربني فو الله ما صنع سيفه شيئا ثم ذهب فظننت أنه لن يعود فو الله ما راعني إلا و قد عصب رأسه بعمامة ثم أقبل نحونا فقلت ثكلتك أمك أ ما نهتك الأوليان عن الإقدام علينا قال إنهما لم تنهياني إنما أحتسب هذا في سبيل الله ثم حمل ليطعنني فطعنته و حمل أصحابه علينا فانفصلنا و حال الليل بيننا فقال له عبد الرحمن هذا يوم شهده هذا يعني ربيعة بن ماجد و هو فارس الحي و ما أظنه يخفى أمر هذا الرجل فقال له أ تعرفه قال نعم قال من هو قال أنا قال فأرني الضربة التي برأسك فأراه فإذا هي ضربة قد برت العظم منكرة فقال له فما رأيك اليوم أ هو كرأيك يومئذ قال رأيي اليوم رأي الجماعة قال فما عليكم من بأس أنتم آمنون ما لم تظهروا خلافا و لكن العجب كيف نجوت من زياد لم يقتلك فيمن قتل أو يسيرك فيمن سير فقال أما التسيير فقد سيرني و أما القتل فقد عافانا الله منه . قال إبراهيم الثقفي و أصاب الضحاك في هربه من حجر عطش شديد و ذلك لأن الجمل الذي كان عليه ماؤه ضل فعطش و خفق برأسه خفقتين لنعاس أصابه فترك الطريق و انتبه و ليس معه إلا نفر يسير من أصحابه و ليس منهم أحد معه ماء فبعث رجالا منهم في جانب يلتمسون الماء و لا أنيس فكان الضحاك بعد ذلك يحكي قال فرأيت جادة فلزمتها فسمعت قائلا يقول
دعاني الهوى فازددت شوقا و ربما
دعاني الهوى من ساعة فأجيب
و أرقني بعد المنام و ربما
أرقت لساري الهم حين يئوب
[ 123 ]
فإن أك قد أحببتكم و رأيتكم
فإني بداري عامر لغريب
(88/9)

قال و أشرف علي رجل فقلت يا عبد الله اسقني ماء فقال لا و الله حتى تعطيني ثمنه قلت و ما ثمنه قال ديتك قلت أ ما ترى عليك من الحق أن تقري الضيف فتطعمه و تسقيه قال ربما فعلنا و ربما بخلنا قال فقلت و الله ما أراك فعلت خيرا قط اسقني قال ما أطيق قلت فإني أحسن إليك و أكسوك قال لا و الله لا أنقص شربة من مائة دينار فقلت له ويحك اسقني فقال ويحك أعطني قلت لا و الله ما هي معي و لكنك تسقيني ثم تنطلق معي أعطيكها قال لا و الله قلت اسقني و أرهنك فرسي حتى أوفيكها قال نعم ثم خرج بين يدي و اتبعته فأشرفنا على أخبية و ناس على ماء فقال لي مكانك حتى آتيك فقلت بل أجي ء معك قال و ساءه حيث رأيت الناس و الماء فذهب يشتد حتى دخل بيتا ثم جاء بماء في إناء فقال اشرب فقلت لا حاجة لي فيه ثم دنوت من القوم فقلت اسقوني ماء فقال شيخ لابنته اسقيه فقامت ابنته فجاءت بماء و لبن فقال ذلك الرجل نجيتك من العطش و تذهب بحقي و الله لا أفارقك حتى أستوفي منك حقي فقلت اجلس حتى أوفيك فجلس فنزلت فأخذت الماء و اللبن من يد الفتاة فشربت و اجتمع إلي أهل الماء فقلت لهم هذا ألأم الناس فعل بي كذا و كذا و هذا الشيخ خير منه و أسدى استسقيته فلم يكلمني و أمر ابنته فسقتني و هو الآن يلزمني بمائة دينار فشتمه أهل الحي و وقعوا به و لم يكن بأسرع من أن لحقني قوم من أصحابي فسلموا علي بالإمرة فارتاب الرجل و جزع و ذهب يريد أن يقوم فقلت و الله لا تبرح حتى أوفيك المائة فجلس ما يدري ما الذي أريد به فلما كثر جندي عندي سرحت إلى ثقلي فأتيت به ثم أمرت بالرجل فجلد مائة جلدة و دعوت الشيخ و ابنته فأمرت لهما بمائة دينار و كسوتهما و كسوت أهل الماء
[ 124 ]
(88/10)

ثوبا ثوبا و حرمته فقال أهل الماء كان أيها الأمير أهلا لذلك و كنت لما أتيت من خير أهلا . فلما رجعت إلى معاوية و حدثته عجب و قال لقد رأيت في سفرك هذا عجبا . و يذكر أهل النسب أن قيسا أبا الضحاك بن قيس كان يبيع عسب الفحول في الجاهلية
و رووا أن عقيلا رحمه الله تعالى قدم على أمير المؤمنين فوجده جالسا في صحن المسجد بالكوفة فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته و كان عقيل قد كف بصره فقال و عليك السلام يا أبا يزيد ثم التفت إلى ابنه الحسن ع فقال قم فأنزل عمك فقام فأنزله ثم عاد فقال اذهب فاشتر لعمك قميصا جديدا و رداء جديدا و إزارا جديدا و نعلا جديدا فذهب فاشترى له فغدا عقيل على علي ع في الثياب فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين قال و عليك السلام يا أبا يزيد قال يا أمير المؤمنين ما أراك أصبت من الدنيا شيئا و إني لا ترضى نفسي من خلافتك بما رضيت به لنفسك فقال يا أبا يزيد يخرج عطائي فأدفعه إليك . فلما ارتحل عن أمير المؤمنين ع أتى معاوية فنصبت له كراسيه و أجلس جلساءه حوله فلما ورد عليه أمر له بمائة ألف فقبضها ثم غدا عليه يوما بعد ذلك و بعد وفاة أمير المؤمنين ع و بيعة الحسن لمعاوية و جلساء معاوية حوله فقال يا أبا يزيد أخبرني عن عسكري و عسكر أخيك فقد وردت عليهما قال أخبرك مررت و الله
[ 125 ]
(88/11)

بعسكر أخي فإذا ليل كليل رسول الله ص و نهار كنهار رسول الله ص إلا أن رسول الله ص ليس في القوم ما رأيت إلا مصليا و لا سمعت إلا قارئا و مررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر برسول الله ليلة العقبة ثم قال من هذا عن يمينك يا معاوية قال هذا عمرو بن العاص قال هذا الذي اختصم فيه ستة نفر فغلب عليه جزار قريش فمن الآخر قال الضحاك بن قيس الفهري قال أما و الله لقد كان أبوه جيد الأخذ لعسب التيوس فمن هذا الآخر قال أبو موسى الأشعري قال هذا ابن السراقة فلما رأى معاوية أنه قد أغضب جلساءه علم أنه إن استخبره عن نفسه قال فيه سوءا فأحب أن يسأله ليقول فيه ما يعلمه من السوء فيذهب بذلك غضب جلسائه قال يا أبا يزيد فما تقول في قال دعني من هذا قال لتقولن قال أ تعرف حمامة قال و من حمامة يا أبا يزيد قال قد أخبرتك ثم قام فمضى فأرسل معاوية إلى النسابة فدعاه فقال من حمامة قال و لي الأمان قال نعم قال حمامة جدتك أم أبي سفيان كانت بغيا في الجاهلية صاحبة راية فقال معاوية لجلسائه قد ساويتكم و زدت عليكم فلا تغضبوا
[ 126 ]
(88/12)

30 ـ و من خطبة له ع في معنى قتل عثمان
لَوْ أَمَرْتُ بِهِ لَكُنْتُ قَاتِلاً أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ لَكُنْتُ نَاصِراً غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ خَذَلَهُ مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وَ مَنْ خَذَلَهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ نَصَرَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَ أَنَا جَامِعٌ لَكُمْ أَمْرَهُ اِسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ اَلْأَثَرَةَ وَ جَزِعْتُمْ فَأَسَأْتُمُ اَلْجَزَعَ وَ لِلَّهِ حُكْمٌ وَاقِعٌ فِي اَلْمُسْتَأْثِرِ وَ اَلْجَازِعِ هذا الكلام بظاهره يقتضي أنه ما أمر بقتله و لا نهى عنه فيكون دمه عنده في حكم الأمور المباحة التي لا يؤمر بها و لا ينهى عنها غير أنه لا يجوز أن يحمل الكلام على ظاهره لما ثبت من عصمة دم عثمان و أيضا فقد ثبت في السير و الأخبار أنه كان ع ينهى الناس عن قتله فإذن يجب أن يحمل لفظ النهي على المنع كما يقال الأمير ينهى عن نهب أموال الرعية أي يمنع و حينئذ يستقيم الكلام لأنه ع ما أمر بقتله و لا منع عن قتله و إنما كان ينهى عنه باللسان و لا يمنع عنه باليد . فإن قيل فالنهي عن المنكر واجب فهلا منع من قتله باليد . قيل إنما يجب المنع باليد عن المنكر إذا كان حسنا و إنما يكون الإنكار حسنا
[ 127 ]
إذا لم يغلب على ظن الناهي عن المنكر أن نهيه لا يؤثر فإن غلب على ظنه أن نهيه لا يؤثر قبح إنكار المنكر لأنه إن كان الغرض تعريف فاعل القبيح قبح ما أقدم عليه فذلك حاصل من دون الإنكار و إن كان الغرض ألا يقع المنكر فذلك غير حاصل لأنه قد غلب على ظنه أن نهيه و إنكاره لا يؤثر و لذلك لا يحسن من الإنسان الإنكار على أصحاب المآصر ما هم عليه من أخذ المكوس لما غلب على الظن أن الإنكار لا يؤثر و هذا يقتضي أن يكون أمير المؤمنين ع قد غلب على ظنه أن إنكاره لا يؤثر فلذلك لم ينكر . و لأجل اشتباه هذا الكلام على السامعين قال كعب بن جعيل شاعر أهل الشام الأبيات التي منها
(89/1)

أرى الشام تكره أهل العراق
و أهل العراق لهم كارهونا
و كل لصاحبه مبغض
يرى كل ما كان من ذاك دينا
إذا ما رمونا رميناهم
و دناهم مثل ما يقرضونا
و قالوا علي إمام لنا
فقلنا رضينا ابن هند رضينا
و قالوا نرى أن تدينوا لنا
فقلنا ألا لا نرى أن ندينا
و من دون ذلك خرط القتاد
و طعن و ضرب يقر العيونا
[ 128 ]
و كل يسر بما عنده
يرى غث ما في يديه سمينا
و ما في علي لمستعتب
مقال سوى ضمه المحدثينا
و إيثاره اليوم أهل الذنوب
و رفع القصاص عن القاتلينا
إذا سيل عنه حذا شبهة
و عمى الجواب على السائلينا
فليس براض و لا ساخط
و لا في النهاة و لا الآمرينا
و لا هو ساء و لا سره
و لا بد من بعض ذا أن يكونا
و هذا شعر خبيث منكر و مقصد عميق و ما قال هذا الشعر إلا بعد أن نقل إلى أهل الشام كلام كثير لأمير المؤمنين ع في عثمان يجري هذا المجرى نحو قوله ما سرني و لا ساءني و قيل له أ رضيت بقتله فقال لم أرض فقيل له أ سخطت قتله فقال لم أسخط و قوله تارة الله قتله و أنا معه و قوله تارة أخرى ما قتلت عثمان و لا مالأت في قتله و قوله تارة أخرى كنت رجلا من المسلمين أوردت إذ أوردوا و أصدرت إذ أصدروا . و لكل شي ء من كلامه إذا صح عنه تأويل يعرفه أولو الألباب . فأما قوله غير أن من نصره فكلام معناه أن خاذليه كانوا خيرا من ناصريه لأن الذين نصروه كان أكثرهم فساقا كمروان بن الحكم و أضرابه و خذله المهاجرون و الأنصار . فأما قوله و أنا جامع لكم أمره إلى آخر الفصل فمعناه أنه فعل ما لا يجوز و فعلتم ما لا يجوز أما هو فاستأثر فأساء الأثرة أي استبد بالأمور فأساء في الاستبداد و أما أنتم فجزعتم مما فعل أي حزنتم فأسأتم الجزع لأنكم قتلتموه و قد كان الواجب عليه أن
[ 129 ]
(89/2)

يرجع عن استئثاره و كان الواجب عليكم ألا تجعلوا جزاءه عما أذنب القتل بل الخلع و الحبس و ترتيب غيره في الإمامة . ثم قال و لله حكم سيحكم به فيه و فيكم
(89/3)

اضطراب الأمر على عثمان ثم أخبار مقتله
و يجب أن نذكر في هذا الموضع ابتداء اضطراب الأمر على عثمان إلى أن قتل . و أصح ما ذكر في ذلك ما أورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ . و خلاصة ذلك أن عثمان أحدث أحداثا مشهورة نقمها الناس عليه من تأمير بني أمية و لا سيما الفساق منهم و أرباب السفه و قلة الدين و إخراج مال الفي ء إليهم و ما جرى في أمر عمار و أبي ذر و عبد الله بن مسعود و غير ذلك من الأمور التي جرت في أواخر خلافته ثم اتفق أن الوليد بن عقبة لما كان عامله على الكوفة و شهد عليه بشرب الخمر صرفه و ولى سعيد بن العاص مكانه فقدم سعيد الكوفة و استخلص من أهلها قوما يسمرون عنده فقال سعيد يوما إن السواد بستان للقريش و بني أمية فقال الأشتر النخعي و تزعم أن السواد الذي أفاءه الله على المسلمين بأسيافنا بستان لك و لقومك فقال صاحب شرطته أ ترد على الأمير مقالته و أغلظ له فقال الأشتر لمن كان حوله من النخع و غيرهم من أشراف الكوفة أ لا تسمعون فوثبوا عليه بحضرة سعيد فوطئوه وطأ عنيفا و جروا برجله فغلظ ذلك على سعيد و أبعد سماره فلم يأذن بعد لهم فجعلوا يشتمون سعيدا في مجالسهم ثم تعدوا ذلك إلى شتم عثمان و اجتمع إليهم ناس كثير حتى غلظ أمرهم فكتب سعيد إلى عثمان في أمرهم فكتب إليه أن يسيرهم إلى الشام لئلا يفسدوا أهل الكوفة و كتب إلى معاوية و هو والي الشام أن نفرا من أهل الكوفة
[ 130 ]
(90/1)

قد هموا بإثارة الفتنة و قد سيرتهم إليك فانههم فإن آنست منهم رشدا فأحسن إليهم و ارددهم إلى بلادهم فلما قدموا على معاوية و كانوا الأشتر و مالك بن كعب الأرحبي و الأسود بن يزيد النخعي و علقمة بن قيس النخعي و صعصعة بن صوحان العبدي و غيرهم جمعهم يوما و قال لهم إنكم قوم من العرب ذوو أسنان و ألسنة و قد أدركتم بالإسلام شرفا و غلبتم الأمم و حويتم مواريثهم و قد بلغني أنكم ذممتم قريشا و نقمتم على الولاة فيها و لو لا قريش لكنتم أذلة إن أئمتكم لكم جنة فلا تفرقوا عن جنتكم إن أئمتكم ليصبرون لكم على الجور و يحتملون منكم العتاب و الله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم الخسف و لا يحمدكم على الصبر ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم و بعد وفاتكم . فقال له صعصعة بن صوحان أما قريش فإنها لم تكن أكثر العرب و لا أمنعها في الجاهلية و إن غيرها من العرب لأكثر منها كان و أمنع . فقال معاوية إنك لخطيب القوم و لا أرى لك عقلا و قد عرفتكم الآن و علمت أن الذي أغراكم قلة العقول أعظم عليكم أمر الإسلام فتذكرني الجاهلية أخزى الله قوما عظموا أمركم فقهوا عني و لا أظنكم تفقهون إن قريشا لم تعز في جاهلية و لا إسلام إلا بالله وحده لم تكن بأكثر العرب و لا أشدها و لكنهم كانوا أكرمهم أحسابا و أمحضهم أنسابا و أكملهم مروءة و لم يمتنعوا في الجاهلية و الناس يأكل بعضهم بعضا إلا بالله فبوأهم حرما آمنا يتخطف الناس من حوله هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا إلا و قد أصابهم الدهر في بلدهم و حرمهم إلا ما كان من قريش فإنه لم يردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل حتى أراد الله تعالى أن يستنقذ من أكرمه باتباع دينه من هوان الدنيا و سوء مرد الآخرة فارتضى لذلك خير
[ 131 ]
(90/2)

خلقه ثم ارتضى له أصحابا و كان خيارهم قريشا ثم بنى هذا الملك عليهم و جعل هذه الخلافة فيهم فلا يصلح الأمر إلا بهم و قد كان الله يحوطهم في الجاهلية و هم على كفرهم أ فتراه لا يحوطهم و هم على دينه أف لك و لأصحابك أما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر القرى أنتنها نبتا و أعمقها واديا و ألأمها جيرانا و أعرفها بالشر لم يسكنها شريف قط و لا وضيع إلا سب بها نزاع الأمم و عبيد فارس و أنت شر قومك أ حين أبرزك الإسلام و خلطك بالناس أقبلت تبغي دين الله عوجا و تنزع إلى الغواية إنه لن يضر ذلك قريشا و لا يضعهم و لا يمنعهم من تأدية ما عليهم إن الشيطان عنكم لغير غافل قد عرفكم بالشر فأغراكم بالناس و هو صارعكم و إنكم لا تدركون بالشر أمرا إلا فتح عليكم شر منه و أخزى قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحدا أبدا و لا يضره و لستم برجال منفعة و لا مضرة فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم و لا تبطرنكم النعمة فإن البطر لا يجر خيرا اذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم . و كتب إلى عثمان أنه قدم علي قوم ليست لهم عقول و لا أديان أضجرهم العدل لا يريدون الله بشي ء و لا يتكلمون بحجة إنما همهم الفتنة و الله مبتليهم ثم فاضحهم و ليسوا بالذين نخاف نكايتهم و ليسوا بأكثر ممن له شغب و نكير . ثم أخرجهم من الشام . و روى أبو الحسن المدائني أنه كان لهم مع معاوية بالشام مجالس طالت فيها المحاورات و المخاطبات بينهم و أن معاوية قال لهم في جملة ما قاله إن قريشا قد عرفت أن أبا سفيان
[ 132 ]
(90/3)

كان أكرمها و ابن أكرمها إلا ما جعل الله لنبيه ص فإنه انتجبه و أكرمه و لو أن أبا سفيان ولد الناس كلهم لكانوا حلماء . فقال له صعصعة بن صوحان كذبت قد ولدهم خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده و نفخ فيه من روحه و أمر الملائكة فسجدوا له فكان فيهم البر و الفاجر و الكيس و الأحمق . قال و من المجالس التي دارت بينهم أن معاوية قال لهم أيها القوم ردوا خيرا أو اسكتوا و تفكروا و انظروا فيما ينفعكم و المسلمين فاطلبوه و أطيعوني . فقال له صعصعة لست بأهل ذلك و لا كرامة لك أن تطاع في معصية الله . فقال إن أول كلام ابتدأت به أن أمرتكم بتقوى الله و طاعة رسوله و أن تعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا . فقالوا بل أمرت بالفرقة و خلاف ما جاء به النبي ص . فقال إن كنت فعلت فإني الآن أتوب و آمركم بتقوى الله و طاعته و لزوم الجماعة و أن توقروا أئمتكم و تطيعوهم . فقال صعصعة إن كنت تبت فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإن في المسلمين من هو أحق به منك ممن كان أبوه أحسن أثرا في الإسلام من أبيك و هو أحسن قدما في الإسلام منك . فقال معاوية إن لي في الإسلام لقدما و إن كان غيري أحسن قدما مني لكنه
[ 133 ]
(90/4)

ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني و لقد رأى عمر بن الخطاب ذلك فلو كان غيري أقوى مني لم يكن عند عمر هوادة لي و لا لغيري و لم أحدث ما ينبغي له أن أعتزل عملي فلو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلي بخط يده فاعتزلت عمله فمهلا فإن في دون ما أنتم فيه ما يأمر فيه الشيطان و ينهى و لعمري لو كانت الأمور تقضى على رأيكم و أهوائكم ما استقام الأمر لأهل الإسلام يوما و لا ليلة فعاودوا الخير و قولوه فإن الله ذو سطوات و إني خائف عليكم أن تتتابعوا إلى مطاوعة الشيطان و معصية الرحمن فيحلكم ذلك دار الهون في العاجل و الآجل . فوثبوا على معاوية فأخذوا برأسه و لحيته فقال مه إن هذه ليست بأرض الكوفة و الله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي و أنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم فلعمري إن صنيعكم يشبه بعضه بعضا . ثم قام من عندهم و كتب إلى عثمان في أمرهم فكتب إليه أن ردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة فردهم فأطلقوا ألسنتهم في ذمه و ذم عثمان و عيبهما فكتب إليه عثمان أن يسيرهم إلى حمص إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فسيرهم إليها .
[ 134 ]
(90/5)

و روى الواقدي قال لما سير بالنفر الذين طردهم عثمان عن الكوفة إلى حمص و هم الأشتر و ثابت بن قيس الهمداني و كميل بن زياد النخعي و زيد بن صوحان و أخوه صعصعة و جندب بن زهير الغامدي و جندب بن كعب الأزدي و عروة بن الجعد و عمرو بن الحمق الخزاعي و ابن الكواء جمعهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بعد أن أنزلهم أياما و فرض لهم طعاما ثم قال لهم يا بني الشيطان لا مرحبا بكم و لا أهلا قد رجع الشيطان محسورا و أنتم بعد في بساط ضلالكم و غيكم جزى الله عبد الرحمن إن لم يؤذكم يا معشر من لا أدري أ عرب هم أم عجم أ تراكم تقولون لي ما قلتم لمعاوية أنا ابن خالد بن الوليد أنا ابن من عجمته العاجمات أنا ابن فاقئ عين الردة و الله يا ابن صوحان لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى إن بلغني أن أحدا ممن معي دق أنفك فأقنعت رأسك . قال فأقاموا عنده شهرا كلما ركب أمشاهم معه و يقول لصعصعة يا ابن الخطيئة إن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر ما لك لا تقول كما كنت تقول لسعيد و معاوية فيقولون سنتوب إلى الله أقلنا أقالك الله فما زال ذاك دأبه و دأبهم حتى قال تاب الله عليكم فكتب إلى عثمان يسترضيه عنهم و يسأله فيهم فردهم إلى الكوفة . قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى ثم إن سعيد بن العاص قدم على عثمان سنة إحدى عشرة من خلافته فلما دخل المدينة اجتمع قوم من الصحابة فذكروا سعيدا و أعماله و ذكروا قرابات عثمان و ما سوغهم من مال المسلمين و عابوا أفعال عثمان فأرسلوا إليه عامر بن عبد القيس و كان متألها و اسم أبيه عبد الله و هو من تميم ثم من بني العنبر فدخل على عثمان فقال له إن ناسا من الصحابة
[ 135 ]
(90/6)

اجتمعوا و نظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما فاتق الله و تب إليه فقال عثمان انظروا إلى هذا تزعم الناس أنه قارئ ثم هو يجي ء إلي فيكلمني فيما لا يعلمه و الله ما تدري أين الله فقال عامر بلى و الله إني لأدري إن الله لبالمرصاد . فأخرجه عثمان و أرسل إلى عبد الله بن سعد بن سرح و إلى معاوية و سعيد بن العاص و عمرو بن العاص و عبد الله بن عامر و كان قد استقدم الأمراء من أعمالهم فشاورهم و قال إن لكل أمير وزراء و نصحاء و إنكم وزرائي و نصحائي و أهل ثقتي و قد صنع الناس ما قد رأيتم و طلبوا إلي أن أعزل عمالي و أن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم . فقال عبد الله بن عامر أرى لك يا أمير المؤمنين أن تشغلهم عنك بالجهاد حتى يذلوا لك و لا تكون همة أحدهم إلا في نفسه و ما هو فيه من دبر دابته و قمل فروته . و قال سعيد بن العاص احسم عنك الداء و اقطع عنك الذي تخاف إن لكل قوم قادة متى يهلكوا يتفرقوا و لا يجتمع لهم أمر . فقال عثمان إن هذا لهو الرأي لو لا ما فيه و قال معاوية أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله فأنا أكفيك أهل الشام . و قال عبد الله بن سعد إن الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم . فقال عمرو بن العاص يا أمير المؤمنين إنك قد ركبت الناس ببني أمية فقلت و قالوا و زغت و زاغوا فاعتدل أو اعتزل فإن أبيت فاعزم عزما و امض قدما .
[ 136 ]
(90/7)

فقال له عثمان ما لك قمل فروك أ هذا بجد منك . فسكت عمرو حتى تفرقوا ثم قال و الله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم علي من ذلك و لكني علمت أن بالباب من يبلغ الناس قول كل رجل منا فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيرا و أدفع عنك شرا . فرد عثمان عماله إلى أعمالهم و أمرهم بتجهيز الناس في البعوث و عزم على أن يحرمهم أعطياتهم ليطيعوه و رد سعيد بن العاص إلى الكوفة فتلقاه أهلها بالجرعة و كانوا قد كرهوا إمارته و ذموا سيرته فقالوا له ارجع إلى صاحبك فلا حاجة لنا فيك فهم بأن يمضي لوجهه و لا يرجع فكثر الناس عليه فقال له قائل ما هذا أ ترد السيل عن إدراجه و الله لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية و يوشك أن تنتضى بعد اليوم ثم يتمنون ما هم اليوم فيه فلا يرد عليهم فارجع إلى المدينة فإن الكوفة ليست لك بدار . فرجع إلى عثمان فأخبره بما فعلوا فأنفذ أبا موسى الأشعري أميرا على الكوفة و كتب إليهم أما بعد فقد أرسلت إليكم أبا موسى الأشعري أميرا و أعفيتكم من سعيد و و الله لأفوضنكم عرضي و لأبذلن لكم صبري و لأستصلحنكم جهدي فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه و لا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه لأكون فيه عند ما أحببتم و كرهتم حتى لا يكون لكم على الله حجة و الله لنصبرن كما أمرنا و سيجزي الله الصابرين .
[ 137 ]
(90/8)

قال أبو جعفر فلما دخلت سنة خمس و ثلاثين تكاتب أعداء عثمان و بني أمية في البلاد و حرض بعضهم بعضا على خلع عثمان عن الخلافة و عزل عماله عن الأمصار و اتصل ذلك بعثمان فكتب إلى أهل الأمصار أما بعد فإنه رفع إلي أن أقواما منكم يشتمهم عمالي و يضربونهم فمن أصابه شي ء من ذلك فليواف الموسم بمكة فليأخذ بحقه مني أو من عمالي فإني قد استقدمتهم أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين . ثم كاتب عماله و استقدمهم فلما قدموا عليه جمعهم و قال ما شكاية الناس منكم إني لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم و ما يعصب هذا الأمر إلا بي فقالوا له و الله ما صدق من رفع إليك و لا بر و لا نعلم لهذا الأمر أصلا فقال عثمان فأشيروا علي فقال سعيد بن العاص هذه أمور مصنوعة تلقى في السر فيتحدث بها الناس و دواء ذلك السيف . و قال عبد الله بن سعد خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم . و قال معاوية الرأي حسن الأدب . و قال عمرو بن العاص أرى لك أن تلزم طريق صاحبيك فتلين في موضع اللين و تشتد في موضع الشدة . فقال عثمان قد سمعت ما قلتم إن الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن لا بد منه و إن بابه الذي يغلق عليه ليفتحن فكفكفوهم باللين و المداراة إلا في حدود الله فقد علم الله أني لم آل الناس خيرا و إن رحى الفتنة لدائرة فطوبى لعثمان إن مات و لم يحركها سكنوا الناس و هبوا لهم حقوقهم فإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها .
[ 138 ]
(90/9)

ثم نفر فقدم المدينة فدعا عليا و طلحة و الزبير فحضروا و عنده معاوية فسكت عثمان و لم يتكلم و تكلم معاوية فحمد الله و قال أنتم أصحاب رسول الله ص و خيرته من خلقه و ولاة أمر هذه الأمة لا يطمع فيه أحد غيركم اخترتم صاحبكم عن غير غلبة و لا طمع و قد كبر و ولى عمره فلو انتظرتم به الهرم كان قريبا مع أني أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغه ذلك و قد فشت مقالة خفتها عليكم فما عبتم فيه من شي ء فهذه يدي لكم به رهنا فلا تطمعوا الناس في أمركم فو الله إن أطعتموهم لا رأيتم أبدا منها إلا إدبارا . فقال علي ع و ما لك و ذاك لا أم لك فقال دع أمي فإنها ليست بشر أمهاتكم قد أسلمت و بايعت النبي ص و أجبني عما أقول لك . فقال عثمان صدق ابن أخي أنا أخبركم عني و عما وليت إن صاحبي اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما و من كان منهما بسبيل احتسابا و إن رسول الله ص كان يعطي قرابته و أنا في رهط أهل عيلة و قلة معاش فبسطت يدي في شي ء من ذلك لما أقوم به فيه فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه فأمري لأمركم تبع . قالوا أصبت و أحسنت إنك أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفا و أعطيت مروان خمسة عشر ألفا فاستعدها منهما فاستعادها فخرجوا راضين . قال أبو جعفر و قال معاوية لعثمان اخرج معي إلى الشام فإنهم على الطاعة
[ 139 ]
(90/10)

قبل أن يهجم عليك ما لا قبل لك به فقال لا أبيع جوار رسول الله ص بشي ء و إن كان فيه قطع خيط عنقي قال فأبعث إليك جندا من الشام يقيم معك لنائبة إن نابت المدينة أو إياك فقال لا أضيق على جيران رسول الله ص فقال و الله لتغتالن فقال حسبي الله و نعم الوكيل . قال أبو جعفر و خرج معاوية من عند عثمان فمر على نفر من المهاجرين فيهم علي ع و طلحة و الزبير و على معاوية ثياب سفره و هو خارج إلى الشام فقام عليهم فقال إنكم تعلمون أن هذا الأمر كان الناس يتغالبون عليه حتى بعث الله نبيه فتفاضلوا بالسابقة و القدمة و الجهاد فإن أخذوا بذلك فالأمر أمرهم و الناس لهم تبع و إن طلبوا الدنيا بالتغالب سلبوا ذلك و رده الله إلى غيرهم و إن الله على البدل لقادر و إني قد خلفت فيكم شيخنا فاستوصوا به خيرا و كانفوه تكونوا أسعد منه بذلك ثم ودعهم و مضى فقال علي ع كنت أرى في هذا خيرا فقال الزبير و الله ما كان أعظم قط في صدرك و صدورنا منه اليوم . قلت من هذا اليوم أنشب معاوية أظفاره في الخلافة لأنه غلب على ظنه قتل عثمان و رأى أن الشام بيده و أن أهلها يطيعونه و أن له حجة يحتج بها عليهم و يجعلها ذريعة إلى غرضه و هي قتل عثمان إذا قتل و أنه ليس في أمراء عثمان أقوى منه و لا أقدر على تدبير الجيوش و استمالة العرب فبنى أمره من هذا اليوم على الطمع في الخلافة أ لا ترى إلى قوله لصعصعة من قبل إنه ليس أحد أقوى مني على الإمارة و إن عمر
[ 140 ]
(90/11)

استعملني و رضي سيرتي أ و لا ترى إلى قوله للمهاجرين الأولين إن شرعتم في أخذها بالتغالب و ملتم على هذا الشيخ أخرجها الله منكم إلى غيركم و هو على الاستبدال قادر و إنما كان يعني نفسه و هو يكني عنها و لهذا تربض بنصرة عثمان لما استنصره و لم يبعث إليه أحدا . و روى محمد بن عمر الواقدي رحمه الله تعالى قال لما أجلب الناس على عثمان و كثرت القالة فيه خرج ناس من مصر منهم عبد الرحمن بن عديس البلوي و كنانة بن بشر الليثي و سودان بن حمران السكوني و قتيرة بن وهب السكسكي و عليهم جميعا أبو حرب الغافقي و كانوا في ألفين و خرج ناس من الكوفة منهم زيد بن صوحان العبدي و مالك الأشتر النخعي و زياد بن النضر الحارثي و عبد الله بن الأصم الغامدي في ألفين و خرج ناس من أهل البصرة منهم حكيم بن جبلة العبدي و جماعة من أمرائهم و عليهم حرقوص بن زهير السعدي و ذلك في شوال من سنة خمس و ثلاثين و أظهروا أنهم يريدون الحج فلما كانوا من المدينة على ثلاث تقدم أهل البصرة فنزلوا ذا خشب و كان هواهم في طلحة و تقدم أهل الكوفة فنزلوا الأعوص و كان هواهم في الزبير و جاء أهل مصر فنزلوا المروة و كان هواهم في علي ع و دخل ناس منهم إلى المدينة يخبرون ما في قلوب الناس لعثمان فلقوا جماعة من المهاجرين و الأنصار و لقوا أزواج النبي ص و قالوا إنما نريد الحج و نستعفي من عمالنا . ثم لقي جماعة من المصريين عليا ع و هو متقلد سيفه عند أحجار الزيت
[ 141 ]
(90/12)

فسلموا عليه و عرضوا عليه أمرهم فصاح بهم و طردهم و قال لقد علم الصالحون أن جيش المروة و ذي خشب و الأعوص ملعونون على لسان محمد ص . فانصرفوا عنه . و أتى البصريون طلحة فقال لهم مثل ذلك و أتى الكوفيون الزبير فقال لهم مثل ذلك فتفرقوا و خرجوا عن المدينة إلى أصحابهم . فلما أمن أهل المدينة منهم و اطمأنوا إلى رجوعهم لم يشعروا إلا و التكبير في نواحي المدينة و قد نزلوها و أحاطوا بعثمان و نادى مناديهم يا أهل المدينة من كف يده عن الحرب فهو آمن فحصروه في منزله إلا أنهم لم يمنعوا الناس من كلامه و لقائه فجاءهم جماعة من رؤساء المهاجرين و سألوهم ما شأنهم فقالوا لا حاجة لنا في هذا الرجل ليعتزلنا لنولي غيره لم يزيدوهم على ذلك . فكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستنجدهم و يأمرهم بتعجيل الشخوص إليه للمنع عنه و يعرفهم ما الناس فيه فخرج أهل الأمصار على الصعب و الذلول فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري و بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح معاوية بن حديج و خرج من الكوفة القعقاع بن عمرو بعثه أبو موسى . و قام بالكوفة نفر يحرضون الناس على نصر عثمان و إعانة أهل المدينة منهم عقبة بن عمر و عبد الله بن أبي أوفى و حنظلة الكاتب و كل هؤلاء من الصحابة و من التابعين مسروق و الأسود و شريح و غيرهم . و قام بالبصرة عمران بن الحصين و أنس بن مالك و غيرهما من الصحابة و من التابعين كعب بن سور و هرم بن حيان و غيرهما .
[ 142 ]
(90/13)

و قام بالشام و مصر جماعة من الصحابة و التابعين . و خرج عثمان يوم الجمعة فصلى بالناس و قام على المنبر فقال يا هؤلاء الله الله فو الله إن أهل المدينة يعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد ص فامحوا الخطأ بالصواب . فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال نعم أنا أعلم ذلك فأقعده حكيم بن جبلة و قام زيد بن ثابت فأقعده قتيرة بن وهب و ثار القوم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد و حصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيا عليه فأدخل داره و استقتل نفر من أهل المدينة مع عثمان منهم سعد بن أبي وقاص و الحسن بن علي ع و زيد بن ثابت و أبو هريرة فأرسل إليهم عثمان عزمت عليكم أن تنصرفوا فانصرفوا . و أقبل علي و طلحة و الزبير فدخلوا على عثمان يعودونه من صرعته و يشكون إليه ما يجدون لأجله و عند عثمان نفر من بني أمية منهم مروان بن الحكم فقالوا لعلي ع أهلكتنا و صنعت هذا الذي صنعت و الله إن بلغت هذا الأمر الذي تريده لنمرن عليك الدنيا فقام مغضبا و خرج الجماعة الذين حضروا معه إلى منازلهم . و روى الواقدي قال صلى عثمان بعد ما وثبوا به في المسجد شهرا كاملا ثم منعوه الصلاة و صلى بالناس أميرهم الغافقي . و روى المدائني قال كان عثمان محصورا محاطا به و هو يصلي بالناس في المسجد و أهل مصر و الكوفة و البصرة الحاضرون له يصلون خلفه و هم أدق في عينه من التراب .
[ 143 ]
(90/14)

قال أبو جعفر في التاريخ ثم إن أهل المدينة تفرقوا عنه و لزموا بيوتهم لا يخرج أحد منهم إلا بسيفه يمتنع به فكان حصاره أربعين يوما . و روى الكلبي و الواقدي و المدائني أن محمد بن أبي بكر و محمد بن أبي حذيفة كانا بمصر يحرضان الناس على عثمان فسار محمد بن أبي بكر مع من سار إلى عثمان و أقام محمد بن أبي حذيفة بمصر ثم غلب عليها لما سار عبد الله بن سعد بن أبي سرح عامل عثمان عنها إلى المدينة في أثر المصريين بإذن عثمان له فلما كان بأيلة بلغه أن المصريين قد أحاطوا بعثمان و أنه مقتول و أن محمد بن أبي حذيفة قد غلب على مصر فعاد عبد الله إلى مصر فمنع عنها فأتى فلسطين فأقام بها حتى قتل عثمان . و روى الكلبي قال بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح رسولا من مصر إلى عثمان يخبره بنهوض من نهض من مصر إليه و أنهم قد أظهروا العمرة و قصدهم خلعه أو قتله فخطب عثمان الناس و أعلمهم حالهم و قال إنهم قد أسرعوا إلى الفتنة و استطالوا عمري و الله إن فارقتهم ليتمنين كل منهم أن عمري كان طال عليهم مكان كل يوم سنة مما يرون من الدماء المسفوكة و الإحن و الأثرة الظاهرة و الأحكام المغيرة . و روى أبو جعفر قال كان عمرو بن العاص ممن يحرض على عثمان و يغري به و لقد خطب عثمان يوما في أواخر خلافته فصاح به عمرو بن العاص اتق الله يا عثمان فإنك قد ركبت أمورا و ركبناها معك فتب إلى الله نتب فناداه عثمان و إنك هاهنا يا ابن النابغة قملت و الله جبتك منذ نزعتك عن العمل فنودي من ناحية أخرى تب إلى الله و نودي من أخرى مثل ذلك فرفع يديه إلى السماء و قال اللهم إني أول التائبين ثم نزل .
[ 144 ]
(90/15)

و روى أبو جعفر قال كان عمرو بن العاص شديد التحريض و التأليب على عثمان و كان يقول و الله إن كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان فضلا عن الرؤساء و الوجوه فلما سعر الشر بالمدينة خرج إلى منزله بفلسطين فبينا هو بقصره و معه ابناه عبد الله و محمد و عندهم سلامة بن روح الجذامي إذ مر بهم راكب من المدينة فسألوه عن عثمان فقال محصور فقال عمرو أنا أبو عبد الله قد يضرط العير و المكواة في النار ثم مر بهم راكب آخر فسألوه فقال قتل عثمان فقال عمرو أنا أبو عبد الله إذا نكأت قرحة أدميتها فقال سلامة بن روح يا معشر قريش إنما كان بينكم و بين العرب باب فكسرتموه فقال نعم أردنا أن يخرج الحق من خاصرة الباطل ليكون الناس في الأمر شرعا سواء . و روى أبو جعفر قال لما نزل القوم ذا خشب يريدون قتل عثمان إن لم ينزع عما يكرهون و علم عثمان ذلك جاء إلى منزل علي ع فدخل و قال يا ابن عم إن قرابتي قريبة و لي عليك حق و قد جاء ما ترى من هؤلاء القوم و هم مصبحي و لك عند الناس قدر و هم يسمعون منك و أحب أن تركب إليهم فتردهم عني فإن في دخولهم علي وهنا لأمري و جرأة علي فقال ع على أي شي ء أردهم قال على أن أصير إلى ما أشرت به و رأيته لي فقال علي ع إني قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك تخرج و تقول و تعد ثم ترجع و هذا من فعل مروان و معاوية و ابن عامر و عبد الله بن سعد فإنك أطعتهم و عصيتني قال عثمان فإني أعصيهم و أطيعك . فأمر علي ع الناس أن يركبوا معه فركب ثلاثون رجلا من المهاجرين
[ 145 ]
(90/16)

و الأنصار منهم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل و أبو جهم العدوي و جبير بن مطعم و حكيم بن حزام و مروان بن الحكم و سعيد بن العاص و عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد . و من الأنصار أبو أسيد الساعدي و زيد بن ثابت و حسان بن ثابت و كعب بن مالك و غيرهم فأتوا المصريين فكلموهم فكان الذي يكلمهم علي و محمد بن مسلمة فسمعوا منهما و رجعوا أصحابهم يطلبون مصر و رجع علي ع حتى دخل على عثمان فأشار عليه أن يتكلم بكلام يسمعه الناس منه ليسكنوا إلى ما يعدهم به من النزوع و قال له إن البلاد قد تمخضت عليك و لا آمن أن يجي ء ركب من جهة أخرى فتقول لي يا علي اركب إليهم فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك و استخففت بحقك . فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها و أعطى الناس من نفسه التوبة و قال لهم أنا أول من اتعظ و أستغفر الله عما فعلت و أتوب إليه فمثلي نزع و تاب فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروا رأيهم و ليذكر كل واحد ظلامته لأكشفها و حاجته لأقضيها فو الله لئن ردني الحق عبدا لأستن بسنة العبيد و لأذلن ذل العبيد و ما عن الله مذهب إلا إليه و الله لأعطينكم الرضا و لأنحين مروان و ذويه و لا أحتجب عنكم . فرق الناس له و بكوا حتى خضلوا لحاهم و بكى هو أيضا فلما نزل وجد مروان و سعيدا و نفرا من بني أمية في منزله قعودا لم يكونوا شهدوا خطبته و لكنها بلغتهم فلما جلس قال مروان يا أمير المؤمنين أ أتكلم أم أسكت فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان لا بل تسكت فأنتم و الله قاتلوه و مميتو أطفاله إنه قد قال مقالة لا ينبغي له
[ 146 ]
(90/17)

أن ينزع عنها فقال لها مروان و ما أنت و ذاك و الله لقد مات أبوك و ما يحسن أن يتوضأ فقالت مهلا يا مروان عن ذكر أبي إلا بخير و الله لو لا أن أباك عم عثمان و أنه يناله غمه و عيبه لأخبرتك من أمره بما لا أكذب فيه عليه . فأعرض عنه عثمان ثم عاد فقال يا أمير المؤمنين أ أتكلم أم أسكت فقال تكلم فقال بأبي أنت و أمي و الله لوددت أن مقالتك هذه كانت و أنت ممتنع فكنت أول من رضي بها و أعان عليها و لكنك قلت ما قلت و قد بلغ الحزام الطبيين و جاوز السيل الزبى و حين أعطى الخطة الذليلة الذليل و الله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوف عليها ما زدت على أن جرأت عليك الناس . فقال عثمان قد كان من قولي ما كان و إن الفائت لا يرد و لم آل خيرا . فقال مروان إن الناس قد اجتمعوا ببابك أمثال الجبال قال ما شأنهم قال أنت دعوتهم إلى نفسك فهذا يذكر مظلمة و هذا يطلب مالا و هذا يسأل نزع عامل من عمالك عنه و هذا ما جنيت على خلافتك و لو استمسكت و صبرت كان خيرا لك قال فاخرج أنت إلى الناس فكلمهم فإني أستحيي أن أكلمهم و أردهم . فخرج مروان إلى الناس و قد ركب بعضهم بعضا فقال ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم جئتم لنهب شاهت الوجوه أ تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا اعزبوا عنا و الله إن رمتمونا لنمرن عليكم ما حلا و لنحلن بكم ما لا يسركم و لا تحمدوا فيه غب رأيكم ارجعوا إلى منازلكم فإنا و الله غير مغلوبين على ما في أيدينا
[ 147 ]
(90/18)

فرجع الناس خائبين يشتمون عثمان و مروان و أتى بعضهم عليا ع فأخبره الخبر فأقبل علي ع على عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري فقال أ حضرت خطبة عثمان قال نعم قال أ حضرت مقالة مروان للناس قال نعم فقال أي عباد الله يا لله للمسلمين إني إن قعدت في بيتي قال لي تركتني و خذلتني و إن تكلمت فبلغت له ما يريد جاء مروان فتلعب به حتى قد صار سيقة له يسوقه حيث يشاء بعد كبر السن و صحبته الرسول ص و قام مغضبا من فوره حتى دخل على عثمان فقال له أ ما يرضى مروان منك إلا أن يحرفك عن دينك و عقلك فأنت معه كجمل الظعينة يقاد حيث يسار به و الله ما مروان بذي رأي في دينه و لا عقله و إني لأراه يوردك ثم لا يصدرك و ما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك أفسدت شرفك و غلبت على رأيك ثم نهض . فدخلت نائلة بنت الفرافصة فقالت قد سمعت قول علي لك و إنه ليس براجع إليك و لا معاود لك و قد أطعت مروان يقودك حيث يشاء قال فما أصنع قالت تتقي الله و تتبع سنة صاحبيك فإنك متى أطعت مروان قتلك و ليس لمروان عند الناس قدر و لا هيبة و لا محبة و إنما تركك الناس لمكانه و إنما رجع عنك أهل مصر لقول علي فأرسل إليه فاستصلحه فإن له عند الناس قدما و إنه لا يعصى . فأرسل إلى علي فلم يأته و قال قد أعلمته أني غير عائد . قال أبو جعفر فجاء عثمان إلى علي بمنزله ليلا فاعتذر إليه و وعد من نفسه الجميل و قال إني فاعل و إني غير فاعل فقال له علي ع أ بعد ما تكلمت على منبر رسول الله ص و أعطيت من نفسك ثم دخلت بيتك و خرج مروان
[ 148 ]
(90/19)

إلى الناس يشتمهم على بابك فخرج عثمان من عنده و هو يقول خذلتني يا أبا الحسن و جرأت الناس علي فقال علي ع و الله إني لأكثر الناس ذبا عنك و لكني كلما جئت بشي ء أظنه لك رضا جاء مروان بغيره فسمعت قوله و تركت قولي . و لم يغد علي إلى نصر عثمان إلى أن منع الماء لما اشتد الحصار عليه فغضب علي من ذلك غضبا شديدا و قال لطلحة أدخلوا عليه الروايا فكره طلحة ذلك و ساءه فلم يزل علي ع حتى أدخل الماء إليه . و روى أبو جعفر أيضا أن عليا ع كان في ماله بخيبر لما حصر عثمان فقدم المدينة و الناس مجتمعون على طلحة و كان لطلحة في حصار عثمان أثر فلما قدم علي ع أتاه عثمان و قال له أما بعد فإن لي حق الإسلام و حق الإخاء و القرابة و الصهر و لو لم يكن من ذلك شي ء و كنا في جاهلية لكان عارا على بني عبد مناف أن يبتز بنو تيم أمرهم يعني طلحة فقال له علي أنا أكفيك فاذهب أنت . ثم خرج إلى المسجد فرأى أسامة بن زيد فتوكأ على يده حتى دخل دار طلحة و هي مملوءة من الناس فقال له يا طلحة ما هذا الأمر الذي صنعت بعثمان فقال يا أبا حسن أ بعد أن مس الحزام الطبيين فانصرف علي ع حتى أتى بيت المال فقال افتحوه فلم يجدوا المفاتيح فكسر الباب و فرق ما فيه على الناس فانصرف الناس من عند طلحة حتى بقي وحده و سر عثمان بذلك و جاء طلحة فدخل على عثمان فقال يا أمير المؤمنين إني أردت أمرا فحال الله بيني و بينه و قد جئتك تائبا فقال و الله ما جئت و لكن جئت مغلوبا الله حسيبك يا طلحة .
[ 149 ]
(90/20)

قال أبو جعفر كان عثمان مستضعفا طمع فيه الناس و أعان على نفسه بأفعاله و باستيلاء بني أمية عليه و كان ابتداء الجرأة عليه أن إبلا من إبل الصدقة قدم بها عليه فوهبها لبعض ولد الحكم بن أبي العاص فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فأخذها و قسمها بين الناس و عثمان في داره فكان ذلك أول وهن دخل على خلافة عثمان . و قيل بل كان أول وهن دخل عليه أن عثمان مر بجبلة بن عمرو الساعدي و هو في نادي قومه و في يده جامعة فسلم فرد القوم عليه فقال جبلة لم تردون على رجل فعل كذا و فعل كذا ثم قال لعثمان و الله لأطرحن هذا الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه الخبيثة مروان و ابن عامر و ابن أبي سرح فمنهم من نزل القرآن بذمه و منهم من أباح رسول الله ص دمه . و قيل إنه خطب يوما و بيده عصا كان رسول الله ص و أبو بكر و عمر يخطبون عليها فأخذها جهجاه الغفاري من يده و كسرها على ركبته فلما تكاثرت أحداثه و تكاثر طمع الناس فيه كتب جمع من أهل المدينة من الصحابة و غيرهم إلى من بالآفاق إن كنتم تريدون الجهاد فهلموا إلينا فإن دين محمد قد أفسده خليفتكم فاخلعوه فاختلفت عليه القلوب و جاء المصريون و غيرهم إلى المدينة حتى حدث ما حدث . و روى الواقدي و المدائني و ابن الكلبي و غيرهم و ذكره أبو جعفر في التاريخ و ذكره غيره من جميع المورخين أن عليا ع لما رد المصريين رجعوا بعد ثلاثة أيام فأخرجوا صحيفة في أنبوبة رصاص و قالوا وجدنا غلام عثمان بالموضع المعروف
[ 150 ]
(90/21)

بالبويب على بعير من إبل الصدقة ففتشنا متاعه لأنا استربنا أمره فوجدنا فيه هذه الصحيفة مضمونها أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بجلد عبد الرحمن بن عديس و عمرو بن الحمق و حلق رءوسهما و لحاهما و حبسهما و صلب قوم آخرين من أهل مصر . و قيل إن الذي أخذت منه الصحيفة أبو الأعور السلمي و إنهم لما رأوه و سألوه عن مسيره و هل معه كتاب فقال لا فسألوه في أي شي ء هو فتغير كلامه فأخذوه و فتشوه و أخذوا الكتاب منه و عادوا إلى المدينة و جاء الناس إلى علي ع و سألوه أن يدخل إلى عثمان فيسأله عن هذه الحال فقام فجاء إليه فسأله فأقسم بالله ما كتبته و لا علمته و لا أمرت به فقال محمد بن مسلمة صدق هذا من عمل مروان فقال لا أدري و كان أهل مصر حضورا فقالوا أ فيجترأ عليك و يبعث غلامك على جمل من إبل الصدقة و ينقش على خاتمك و يبعث إلى عاملك بهذه الأمور العظيمة و أنت لا تدري قال نعم قالوا إنك إما صادق أو كاذب فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت به من قتلنا و عقوبتنا بغير حق و إن كنت صادقا فقد استحققت الخلع لضعفك عن هذا الأمر و غفلتك و خبث بطانتك و لا ينبغي لنا أن نترك هذا الأمر بيد من تقطع الأمور دونه لضعفه و غفلته فاخلع نفسك منه فقال لا أنزع قميصا ألبسنيه الله و لكني أتوب و أنزع قالوا لو كان هذا أول ذنب تبت منه لقبلنا و لكنا رأيناك تتوب ثم تعود و لسنا بمنصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله و إن منعك أصحابك و أهلك قاتلناهم حتى نخلص إليك فقال أما أن أبرأ من خلافة الله فالقتل أحب إلي من ذلك و أما قتالكم من يمنع عني فإني لا آمر أحدا بقتالكم فمن قاتلكم فبغير أمري قاتل و لو أردت قتالكم لكتبت إلى الأجناد فقدموا
[ 151 ]
(90/22)

علي أو لحقت ببعض الأطراف و كثرت الأصوات و اللغط فقام علي فأخرج أهل مصر معه و خرج إلى منزله قال أبو جعفر و كتب عثمان إلى معاوية و ابن عامر و أمراء الأجناد يستنجدهم و يأمر بالعجل و البدار و إرسال الجنود إليه فتربص به معاوية فقام في أهل الشام يزيد بن أسد القسري جد خالد بن عبد الله بن يزيد أمير العراق فتبعه خلق كثير فسار بهم إلى عثمان فلما كانوا بوادي القرى بلغهم قتل عثمان فرجعوا . و قيل بل أشخص معاوية من الشام حبيب بن مسلمة الفهري و سار من البصرة مجاشع بن مسعود السلمي فلما وصلوا الربذة و نزلت مقدمتهم الموضع المسمى صرارا بناحية المدينة أتاهم قتل عثمان فرجعوا و كان عثمان قد استشار نصحاءه في أمره فأشاروا أن يرسل إلى علي ع يطلب إليه أن يرد الناس و يعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى تأتيه الأمداد فقال إنهم لا يقبلون التعليل و قد كان مني في المرة الأولى ما كان فقال مروان أعطهم ما سألوك و طاولهم ما طاولوك فإنهم قوم قد بغوا عليك و لا عهد لهم . فدعا عليا ع و قال له قد ترى ما كان من الناس و لست آمنهم على دمي فارددهم عني فإني أعطيهم ما يريدون من الحق من نفسي و من غيري . فقال علي إن الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك و إنهم لا يرضون إلا
[ 152 ]
(90/23)

بالرضا و قد كنت أعطيتهم من قبل عهدا فلم تف به فلا تغرر في هذه المرة فإني معطيهم عنك الحق قال أعطهم فو الله لأفين لهم . فخرج علي ع إلى الناس فقال إنكم إنما تطلبون الحق و قد أعطيتموه و إنه منصفكم من نفسه فسأله الناس أن يستوثق لهم و قالوا إنا لا نرضى بقول دون فعل فدخل عليه فأعلمه فقال اضرب بيني و بين الناس أجلا فإني لا أقدر على تبديل ما كرهوا في يوم واحد فقال علي ع أما ما كان بالمدينة فلا أجل فيه و أما ما غاب فأجله وصول أمرك قال نعم فأجلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام فأجابه إلى ذلك و كتب بينه و بين الناس كتابا على رد كل مظلمة و عزل كل عامل كرهوه فكف الناس عنه و جعل يتأهب سرا للقتال و يستعد بالسلاح و اتخذ جندا فلما مضت الأيام الثلاثة و لم يغير شيئا ثار به الناس و خرج قوم إلى من بذي خشب من المصريين فأعلموهم الحال فقدموا المدينة و تكاثر الناس عليه و طلبوا منه عزل عماله و رد مظالمهم فكان جوابه لهم أني إن كنت أستعمل من تريدون لا من أريد فلست إذن في شي ء من الخلافة و الأمر أمركم فقالوا و الله لتفعلن أو لتخلعن أو لنقتلنك فأبى عليهم و قال لا أنزع سربالا سربلنيه الله فحصروه و ضيقوا الحصار عليه . و روى أبو جعفر لما اشتد على عثمان الحصار أشرف على الناس فقال يا أهل المدينة أستودعكم الله و أسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي ثم قال أنشدكم الله هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم و يجمعكم على خيركم أ فتقولون إن الله لم يستجب لكم و هنتم عليه و أنتم أهل حقه و أنصار نبيه أم تقولون هان على الله
[ 153 ]
(90/24)

دينه فلم يبال من ولى و الدين لم يتفرق أهله بعد أم تقولون لم يكن أخذ عن مشورة إنما كان مكابرة فوكل الله الأمة إذ عصته و لم يتشاوروا في الإمامة إلى أنفسها أم تقولون إن الله لم يعلم عاقبة أمري فمهلا مهلا لا تقتلوني و إنه لا يحل إلا قتل ثلاثة زان بعد إحصان أو كافر بعد إيمان أو قاتل نفس بغير حق أما إنكم إن قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم ثم لا يرفعه الله عنكم أبدا فقالوا أما ما ذكرت من استخارة الناس بعد عمر فإن كل ما يصنعه الله الخيرة و لكن الله جعلك بلية ابتلى بها عباده و لقد كانت لك قدم و سابقة و كنت أهلا للولاية و لكن أحدثت ما تعلمه و لا نترك اليوم إقامة الحق عليك مخافة الفتنة عاما قابلا و أما قولك لا يحل دم إلا بإحدى ثلاث فإنا نجد في كتاب الله إباحة دم غير الثلاثة دم من سعى في الأرض بالفساد و دم من بغى ثم قاتل على بغيه و دم من حال دون شي ء من الحق و منعه و قاتل دونه و قد بغيت و منعت الحق و حلت دونه و كابرت عليه و لم تقد من نفسك من ظلمته و لا من عمالك و قد تمسكت بالإمارة علينا و الذين يقومون دونك و يمنعونك إنما يمنعونك و يقاتلوننا لتسميتك بالإمارة فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك . فسكت عثمان و لزم الدار و أمر أهل المدينة بالرجوع و أقسم عليهم فرجعوا إلا الحسن بن علي و محمد بن طلحة و عبد الله بن الزبير و أشباها لهم و كانت مدة الحصار أربعين يوما . قال أبو جعفر ثم إن محاصري عثمان أشفقوا من وصول أجناد من الشام و البصرة تمنعه فحالوا بين عثمان و بين الناس و منعوه كل شي ء حتى الماء فأرسل عثمان سرا إلى علي ع و إلى أزواج النبي ص أنهم قد منعونا الماء فإن قدرتم أن
[ 154 ]
(90/25)

ترسلوا إلينا ماء فافعلوا فجاء علي ع في الغلس و أم حبيبة بنت أبي سفيان فوقف علي ع على الناس فوعظهم و قال أيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين و لا أمر الكافرين إن فارس و الروم لتأسر فتطعم و تسقي فالله الله لا تقطعوا الماء عن الرجل فأغلظوا له و قالوا لا نعم و لا نعمة عين فلما رأى منهم الجد نزع عمامته عن رأسه و رمى بها إلى دار عثمان يعلمه أنه قد نهض و عاد . و أما أم حبيبة و كانت مشتملة على إداوة فضربوا وجه بغلتها فقالت إن وصايا أيتام بني أمية عند هذا الرجل فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال اليتامى فشتموها و قالوا أنت كاذبة و قطعوا حبل البغلة بالسيف فنفرت و كادت تسقط عنها فتلقاها الناس فحملوها إلى منزلها . و روى أبو جعفر قال أشرف عثمان عليهم يوما فقال أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت بئر رومة بمالي أستعذب بها و جعلت رشائي فيها كرجل من المسلمين قالوا نعم قال فلم تمنعونني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر ثم قال أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت أرض كذا فزدتها في المسجد قالوا نعم قال فهل علمتم أن أحدا منع أن يصلي فيه قبلي .
[ 155 ]
(90/26)

و روى أبو جعفر عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال دخلت على عثمان فأخذ بيدي فأسمعني كلام من على بابه من الناس فمنهم من يقول ما تنتظرون به و منهم من يقول لا تعجلوا فعساه ينزع و يراجع فبينا نحن إذ مر طلحة فقام إليه ابن عديس البلوي فناجاه ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه لا تتركوا أحدا يدخل إلى عثمان و لا يخرج من عنده قال لي عثمان هذا ما أمر به طلحة اللهم اكفني طلحة فإنه حمل هؤلاء القوم و ألبهم علي و الله إني لأرجو أن يكون منها صفرا و أن يسفك دمه قال فأردت أن أخرج فمنعوني حتى أمرهم محمد بن أبي بكر فتركوني أخرج . قال أبو جعفر فلما طال الأمر و علم المصريون قد أجرموا إليه جرما كجرم القتل و أنه لا فرق بين قتله و بين ما أتوا إليه و خافوا على نفوسهم من تركه حيا راموا الدخول عليه من باب داره فأغلقوا الباب و مانعهم الحسن بن علي و عبد الله بن الزبير و محمد بن طلحة و مروان و سعيد بن العاص و جماعة معهم من أبناء الأنصار فزجرهم عثمان و قال أنتم في حل من نصرتي فأبوا و لم يرجعوا . و قام رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض و كان من الصحابة فنادى عثمان و أمره أن يخلع نفسه فبينا هو يناشده و يسومه خلع نفسه رماه كثير بن الصلت الكندي و كان من أصحاب عثمان من أهل الدار بسهم فقتله فصاح المصريون و غيرهم عند ذلك ادفعوا إلينا قاتل ابن عياض لنقتله به فقال عثمان لم أكن لأدفع إليكم رجلا نصرني و أنتم تريدون قتلي فثاروا إلى الباب فأغلق دونهم فجاءوا بنار فأحرقوه و أحرقوا السقيفة التي عليه فقال لمن عنده من أنصاره إن رسول الله ص عهد
[ 156 ]
(90/27)

إلي عهدا فأنا صابر عليه فأخرج على رجل يقاتل دوني ثم قال للحسن إن أباك الآن لفي أمر عظيم من أجلك فاخرج إليه أقسمت عليك لما خرجت إليه فلم يفعل و وقف محاميا عنه و خرج مروان بسيفه يجالد الناس فضربه رجل من بني ليث على رقبته فأثبته و قطع إحدى علباويه فعاش مروان بعد ذلك أوقص و قام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي ليذفف عليه فقامت دونه فاطمة أم إبراهيم بن عدي و كانت أرضعت مروان و أرضعت له فقالت له إن كنت تريد قتله فقد قتل و إن كنت إنما تريد أن تتلعب بلحمه فأقبح بذلك فتركه فخلصته و أدخلته بيتها فعرف لها بنو ذلك بعد و استعملوا ابنها إبراهيم و كان له منهم خاصة . و قتل المغيرة بن الأخنس بن شريق و هو يحامي عن عثمان بالسيف و اقتحم القوم الدار و دخل كثير منهم الدور المجاورة لها و تسوروا من دار عمرو بن حزم إليها حتى ملئوها و غلب الناس على عثمان و ندبوا رجلا لقتله فدخل إليه البيت فقال له اخلعها و ندعك فقال ويحك و الله ما كشفت عن امرأة في جاهلية و لا إسلام و لا تعينت و لا تمنيت و لا وضعت يميني على عورتي مذ بايعت رسول الله و لست بخالع قميصا كسانيه الله حتى يكرم أهل السعادة و يهين أهل الشقاوة . فخرج عنه فقالوا له ما صنعت قال إني لم أستحل قتله فأدخلوا إليه رجلا من الصحابة فقال له لست بصاحبي إن النبي ص دعا لك أن يحفظك يوم كذا و لن تضيع فرجع عنه .
[ 157 ]
(90/28)

فأدخلوا إليه رجلا من قريش فقال له إن رسول الله ص استغفر لك يوم كذا فلن تقارف دما حراما فرجع عنه . فدخل عليه محمد بن أبي بكر فقال له عثمان ويحك أ على الله تغضب هل لي إليك جرم إلا أني أخذت حق الله منك فأخذ محمد بلحيته و قال أخزاك الله يا نعثل قال لست بنعثل لكني عثمان و أمير المؤمنين فقال ما أغنى عنك معاوية و فلان و فلان فقال عثمان يا ابن أخي دعها من يدك فما كان أبوك ليقبض عليها فقال لو عملت ما عملت في حياة أبي لقبض عليها و الذي أريد بك أشد من قبضي عليها فقال أستنصر الله عليك و أستعين به فتركه و خرج . و قيل بل طعن جبينه بمشقص كان في يده فثار سودان بن حمران و أبو حرب الغافقي و قتيرة بن وهب السكسكي فضربه الغافقي بعمود كان في يده و ضرب المصحف برجله و كان في حجره فنزل بين يديه و سال عليه الدم و جاء سودان ليضربه بالسيف فأكبت عليه امرأته نائلة بنت الفرافصة الكلبية و اتقت السيف بيدها و هي تصرخ فنفح أصابعها فأطنها فولت فغمز بعضهم أوراكها و قال إنها لكبيرة العجز و ضرب سودان عثمان فقتله . و قيل بل قتله كنانة بن بشر التجيبي و قيل بل قتيرة بن وهب و دخل غلمان عثمان و مواليه فضرب أحدهم عنق سودان فقتله فوثب قتيرة بن وهب على ذلك الغلام
[ 158 ]
(90/29)

فقتله فوثب غلام آخر على قتيرة فقتله و نهبت دار عثمان و أخذ ما على نسائه و ما كان في بيت المال و كان فيه غرارتان دراهم و وثب عمرو بن الحمق على صدر عثمان و به رمق فطعنه تسع طعنات و قال أما ثلاث منها فإني طعنتهن لله تعالى و أما ست منها فلما كان في صدري عليه و أرادوا قطع رأسه فوقعت عليه زوجتاه نائلة بنت الفرافصة و أم البنين ابنة عيينة بن حصن الفزاري فصحن و ضربن الوجوه فقال ابن عديس اتركوه و أقبل عمير بن ضابئ البرجمي فوثب عليه فكسر ضلعين من أضلاعه و قال له سجنت أبي حتى مات في السجن و كان قتله يوم الثامن عشر من ذي الحجة من سنة خمسين و ثلاثين و قيل بل في أيام التشريق و كان عمره ستا و ثمانين سنة . قال أبو جعفر و بقي عثمان ثلاثة أيام لا يدفن ثم إن حكيم بن حزام و جبير بن مطعم كلما عليا ع في أن يأذن في دفنه ففعل فلما سمع الناس بذلك قعد له قوم في الطريق بالحجارة و خرج به ناس يسير من أهله و معهم الحسن بن علي و ابن الزبير و أبو جهم بن حذيفة بين المغرب و العشاء فأتوا به حائطا من حيطان المدينة يعرف بحش كوكب و هو خارج البقيع فصلوا عليه و جاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه فأرسل علي ع فمنع من رجم سريره و كف الذين راموا منع الصلاة عليه و دفن في حش كوكب فلما ظهر معاوية على الأمر أمر بذلك الحائط فهدم و أدخل في البقيع و أمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل بمقابر المسلمين بالبقيع . و قيل إن عثمان لم يغسل و إنه كفن في ثيابه التي قتل فيها .
[ 159 ]
(90/30)

قال أبو جعفر و روي عن عامر الشعبي أنه قال ما قتل عمر بن الخطاب حتى ملته قريش و استطالت خلافته و قد كان يعلم فتنتهم فحصرهم في المدينة و قال لهم إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد و إن كان الرجل ليستأذنه في الغزو فيقول إن لك في غزوك مع رسول الله ص ما يكفيك و هو خير لك من غزوك اليوم و خير لك من الغزو ألا ترى الدنيا و لا تراك فكان يفعل هذا بالمهاجرين من قريش و لم يكن يفعله بغيرهم من أهل مكة فلما ولي عثمان الخلافة خلى عنهم فانتشروا في البلاد و خالطهم الناس و أفضى الأمر إلى ما أفضى إليه و كان عثمان أحب إلى الرعية من عمر . قال أبو جعفر و كان أول منكر ظهر بالمدينة في خلافة عثمان حين فاضت الدنيا على العرب و المسلمين طيران الحمام و المسابقة بها و الرمي عن الجلاهقات و هي قسي البندق فاستعمل عثمان عليها رجلا من بني ليث في سنة ثمان من خلافته فقص الطيور و كسر الجلاهقات . و روى أبو جعفر قال سأل رجل سعيد بن المسيب عن محمد بن أبي حذيفة ما دعاه إلى الخروج على عثمان فقال كان يتيما في حجر عثمان و كان والى أيتام أهل بيته و محتمل كلهم فسأل عثمان العمل فقال يا بني لو كنت رضا لاستعملتك قال فأذن لي فأخرج فأطلب الرزق قال اذهب حيث شئت و جهزه من عنده و حمله و أعطاه فلما وقع إلى مصر كان فيمن أعان عليه لأنه منعه الإمارة فقيل له فعمار بن ياسر قال
[ 160 ]
(90/31)

كان بينه و بين العباس بن عتبة بن أبي لهب كلام فضربهما عثمان فأورث ذلك تعاديا بين عمار و عثمان و قد كان تقاذفا قبل ذلك . قال أبو جعفر و سئل سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر ما دعاه إلى ركوب عثمان فقال لزمه حق فأخذ عثمان من ظهره فغضب و غره أقوام فطمع لأنه كان من الإسلام بمكان و كانت له دالة فصار مذمما بعد أن كان محمدا و كان كعب بن ذي الحبكة النهدي يلعب بالنيرنجات بالكوفة فكتب عثمان إلى الوليد أن يوجعه ضربا فضربه و سيره إلى دنباوند . و كان ممن خرج إليه و سار إليه و حبس ضابئ بن الحارث البرجمي لأنه هجا قوما فنسبهم إلى أن كلبهم يأتي أمهم فقال لهم
فأمكم لا تتركوها و كلبكم
فإن عقوق الوالدين كبير
[ 161 ]
فاستعدوا عليه عثمان فحبسه فمات في السجن فلذلك حقد ابنه عمير عليه و كسر أضلاعه بعد قتله . قال أبو جعفر و كان لعثمان على طلحة بن عبيد الله خمسون ألفا فقال طلحة له يوما قد تهيأ مالك فاقبضه فقال هو لك معونة على مروءتك فلما حصر عثمان قال علي ع لطلحة أنشدك الله إلا كففت عن عثمان فقال لا و الله حتى تعطي بنو أمية الحق من أنفسها فكان علي ع يقول لحا الله ابن الصعبة أعطاه عثمان ما أعطاه و فعل به ما فعل
[ 162 ]
(90/32)

31 ـ و من كلام له ع لما أنفذ عبد الله بن عباس إلى الزبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل ليستفيئه إلى طاعته
لاَ تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ يَرْكَبُ اَلصَّعْبَ وَ يَقُولُ هُوَ اَلذَّلُولُ وَ لَكِنِ اِلْقَ اَلزُّبَيْرَ فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ اِبْنُ خَالِكَ عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَ أَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا قال الرضي رحمه الله و هو ع أول من سمعت منه هذه الكلمة أعني فما عدا مما بدا ليستفيئه إلى طاعته أي يسترجعه فاء أي رجع و منه سمي الفي ء للظل بعد الزوال و جاء في رواية فإنك إن تلقه تلفه أي تجده ألفيته على كذا أي وجدته . و عاقصا قرنه أي قد عطفه تيس أعقص أي قد التوى قرناه على أذنيه و الفعل فيه عقص الثور قرنه بالفتح و قال القطب الراوندي عقص بالكسر و ليس بصحيح و إنما يقال عقص الرجل بالكسر إذا شح و ساء خلقه فهو عقص . و قوله يركب الصعب أي يستهين بالمستصعب من الأمور يصفه بشراسة
[ 163 ]
(91/1)

الخلق و البأو و كذلك كان طلحة و قد وصفه عمر بذلك و يقال إن طلحة أحدث يوم أحد عنده كبرا شديدا لم يكن و ذاك لأنه أغنى في ذلك اليوم و أبلى بلاء حسنا . و العريكة هاهنا الطبيعة يقال فلان لين العريكة إذا كان سلسا . و قال الراوندي العريكة بقية السنام و لقد صدق و لكن ليس هذا موضع ذاك . و قوله ع لابن عباس قل له يقول لك ابن خالك لطيف جدا و هو من باب الاستمالة و الإذكار بالنسب و الرحم أ لا ترى أن له في القلب من الموقع الداعي إلى الانقياد ما ليس لقوله يقول لك أمير المؤمنين و من هذا الباب قوله تعالى في ذكر موسى و هارون وَ أَلْقَى اَلْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ اِبْنَ أُمَّ إِنَّ اَلْقَوْمَ اِسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ اَلْأَعْداءَ لما رأى هارون غضب موسى و احتدامه شرع معه في الاستمالة و الملاطفة فقال له اِبْنَ أُمَّ و أذكره حق الأخوة و ذلك أدعى إلى عطفه عليه من أن يقول له يا موسى أو يا أيها النبي . فأما قوله فما عدا مما بدا فعدا بمعنى صرف قال الشاعر
و إني عداني أن أزورك محكم
متى ما أحرك فيه ساقي يصخب
و من هاهنا بمعنى عن و قد جاءت في كثير من كلامهم كذلك قال ابن قتيبة في أدب الكاتب قالوا حدثني فلان من فلان أي عن فلان و لهيت من كذا أي عنه و يصير ترتيب الكلام و تقديره فما صرفك عما بدا منك أي
[ 164 ]
(91/2)

ظهر و المعنى ما الذي صدك عن طاعتي بعد إظهارك لها و حذف الضمير المفعول المنصوب كثير جدا كقوله تعالى وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أي أرسلناه و لا بد من تقديره كي لا يبقى الموصول بلا عائد . و قال القطب الراوندي قوله فما عدا مما بدا له معنيان أحدهما ما الذي منعك مما كان قد بدا منك من البيعة قبل هذه الحالة و الثاني ما الذي عاقك و يكون المفعول الثاني لعدا محذوفا يدل عليه الكلام أي ما عداك يريد ما شغلك و ما منعك مما كان بدا لك من نصرتي من البدا الذي يبدو للإنسان و لقائل أن يقول ليس في الوجه الثاني زيادة على الوجه الأول إلا زيادة فاسدة أما إنه ليس فيه زيادة فلأنه فسر في الوجه الأول عدا بمعنى منع ثم فسره في الوجه الثاني بمعنى عاق و فسر عاق بمنع و شغل فصار عدا في الوجه الثاني مثل عدا في الوجه الأول . و قوله مما كان بدا منك فسره في الأول و الثاني بتفسير واحد فلم يبق بين الوجهين تفاوت و أما الزيادة الفاسدة فظنه أن عدا يتعدى إلى مفعولين و أنه قد حذف الثاني و هذا غير صحيح لأن عدا ليس من الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين بإجماع النحاة و من العجب تفسيره المفعول الثاني المحذوف على زعمه بقوله أي ما عداك و هذا المفعول المحذوف هاهنا هو مفعول عدا الذي لا مفعول لها غيره فلا يجوز أن يقال إنه أول و لا ثان . ثم حكى القطب الراوندي حكاية معناها أن صفية بنت عبد المطلب أعتقت عبيدا ثم ماتت ثم مات العبيد و لم يخلفوا وارثا إلا مواليهم و طلب علي ع ميراث العبيد بحق التعصيب و طلبه الزبير بحق الإرث من أمه و تحاكما إلى عمر فقضى عمر بالميراث للزبير .
[ 165 ]
(91/3)

قال القطب الراوندي رحمه الله تعالى حكاية عن أمير المؤمنين ع إنه قال هذا خلاف الشرع لأن ولاء معتق المرأة إذا كانت ميتة يكون لعصبتها و هم العاقلة لا لأولادها . قلت هذه المسألة مختلف فيها بين الإمامية فأبو عبد الله بن النعمان المعروف بالمفيد يقول إن الولاء لولدها و لا يصحح هذا الخبر و يطعن في راويه و غيره من فقهاء الإمامية كأبي جعفر الطوسي و من قال بقوله يذهبون إلى أن الولاء لعصبتها لا لولدها و يصححون الخبر و يزعمون أن أمير المؤمنين ع سكت و لم ينازع على قاعدته في التقية و استعمال المجاملة مع القوم . فأما مذاهب الفقهاء غير الإمامية فإنها متفقة على أن الولاء للولد لا للعصبة كما هو قول المفيد رحمه الله تعالى .
و روى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده ع قال سألت ابن عباس رضي الله عنه عن ذلك فقال إني قد أتيت الزبير فقلت له فقال قل له إني أريد ما تريد كأنه يقول الملك لم يزدني على ذلك فرجعت إلى علي ع فأخبرته . و روى محمد بن إسحاق و الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنه قال قلت الكلمة للزبير فلم يزدني على أن قال قل له
إنا مع الخوف الشديد لنطمع
[ 166 ]
قال و سئل ابن عباس عما يعني بقوله هذا فقال يقول إنا على الخوف لنطمع أن نلي من الأمر ما وليتم . و قد فسره قوم تفسيرا آخر و قالوا أراد إنا مع الخوف من الله لنطمع أن يغفر لنا هذا الذنب . قلت و على كلا التفسيرين لم يحصل جواب المسألة
(91/4)

من أخبار الزبير و ابنه عبد الله
كان عبد الله بن الزبير هو الذي يصلي بالناس في أيام الجمل لأن طلحة و الزبير تدافعا الصلاة فأمرت عائشة عبد الله أن يصلي قطعا لمنازعتهما فإن ظهروا كان الأمر إلى عائشة تستخلف من شاءت . و كان عبد الله بن الزبير يدعي أنه أحق بالخلافة من أبيه و من طلحة و يزعم أن عثمان يوم الدار أوصى بها إليه . و اختلفت الرواية في كيفية السلام على الزبير و طلحة فروي أنه كان يسلم على الزبير وحده بالإمرة فيقال السلام عليك أيها الأمير لأن عائشة ولته أمر الحرب . و روي أنه كان يسلم على كل واحد منهما بذلك . لما نزل علي ع بالبصرة و وقف جيشه بإزاء جيش عائشة قال الزبير و الله ما كان أمر قط إلا عرفت أين أضع قدمي فيه إلا هذا الأمر فإني لا أدري أ مقبل أنا فيه أم مدبر فقال له ابنه عبد الله كلا و لكنك فرقت سيوف ابن أبي طالب و عرفت أن الموت الناقع تحت راياته فقال الزبير ما لك أخزاك الله من ولد ما أشأمك
[ 167 ]
(92/1)

كان أمير المؤمنين ع يقول ما زال الزبير منا أهل البيت حتى شب ابنه عبد الله . برز علي ع بين الصفين حاسرا و قال ليبرز إلي الزبير فبرز إليه مدججا فقيل لعائشة قد برز الزبير إلى علي ع فصاحت وا زبيراه فقيل لها لا بأس عليه منه إنه حاسر و الزبير دارع فقال له ما حملك يا أبا عبد الله على ما صنعت قال أطلب بدم عثمان قال أنت و طلحة وليتماه و إنما نوبتك من ذلك أن تقيد به نفسك و تسلمها إلى ورثته ثم قال نشدتك الله أ تذكر يوم مررت بي و رسول الله ص متكئ على يدك و هو جاء من بني عمرو بن عوف فسلم علي و ضحك في وجهي فضحكت إليه لم أزده على ذلك فقلت لا يترك ابن أبي طالب يا رسول الله زهوه فقال لك مه إنه ليس بذي زهو أما إنك ستقاتله و أنت له ظالم فاسترجع الزبير و قال لقد كان ذلك و لكن الدهر أنسانيه و لأنصرفن عنك فرجع فأعتق عبده سرجس تحللا من يمين لزمته في القتال ثم أتى عائشة فقال لها إني ما وقفت موقفا قط و لا شهدت حربا إلا و لي فيه رأي و بصيرة إلا هذه الحرب و إني لعلى شك من أمري و ما أكاد أبصر موضع قدمي فقالت له يا أبا عبد الله أظنك فرقت سيوف ابن أبي طالب إنها و الله سيوف حداد معدة للجلاد تحملها فئة أنجاد و لئن فرقتها لقد فرقها الرجال قبلك قال كلا و لكنه ما قلت لك ثم انصرف . و روى فروة بن الحارث التميمي قال كنت فيمن اعتزل عن الحرب بوادي السباع مع الأحنف بن قيس و خرج ابن عم لي يقال له الجون مع عسكر البصرة فنهيته
[ 168 ]
(92/2)

فقال لا أرغب بنفسي عن نصرة أم المؤمنين و حواري رسول الله فخرج معهم و إني لجالس مع الأحنف يستنبئ الأخبار إذا بالجون بن قتادة ابن عمي مقبلا فقمت إليه و اعتنقته و سألته عن الخبر فقال أخبرك العجب خرجت و أنا لا أريد أن أبرح الحرب حتى يحكم الله بين الفريقين فبينا أنا واقف مع الزبير إذ جاءه رجل فقال أبشر أيها الأمير فإن عليا لما رأى ما أعد الله له من هذا الجمع نكص على عقبيه و تفرق عنه أصحابه و أتاه آخر فقال له مثل ذلك فقال الزبير ويحكم أبو حسن يرجع و الله لو لم يجد إلا العرفج لدب إلينا فيه ثم أقبل رجل آخر فقال أيها الأمير إن نفرا من أصحاب علي فارقوه ليدخلوا معنا منهم عمار بن ياسر فقال الزبير كلا و رب الكعبة إن عمارا لا يفارقه أبدا فقال الرجل بلى و الله مرارا فلما رأى الزبير أن الرجل ليس براجع عن قوله بعث معه رجلا آخر و قال اذهبا فانظرا فعادا و قالا إن عمارا قد أتاك رسولا من عند صاحبه قال جون فسمعت و الله الزبير يقول وا انقطاع ظهراه وا جدع أنفاه وا سواد وجهاه و يكرر ذلك مرارا ثم أخذته رعدة شديدة فقلت و الله إن الزبير ليس بجبان و إنه لمن فرسان قريش المذكورين و إن لهذا الكلام لشأنا و لا أريد أن أشهد مشهدا يقول أميره هذه المقالة فرجعت إليكم فلم يكن إلا قليل حتى مر الزبير بنا متاركا للقوم فاتبعه عمير بن جرموز فقتله . أكثر الروايات على أن ابن جرموز قتل مع أصحاب النهر و جاء في بعضها أنه عاش إلى أيام ولاية مصعب بن الزبير العراق و أنه لما قدم مصعب البصرة خافه ابن جرموز فهرب فقال مصعب ليظهر سالما و ليأخذ عطاءه موفورا أ يظن أني أقتله بأبي عبد الله و أجعله فداء له فكان هذا من الكبر المستحسن .
[ 169 ]
(92/3)

كان ابن جرموز يدعو لدنياه فقيل له هلا دعوت لآخرتك فقال أيست من الجنة . الزبير أول من شهر سيفه في سبيل الله قيل له في أول الدعوة قد قتل رسول الله فخرج و هو غلام يسعى بسيفه مشهورا . و روى الزبير بن بكار في الموفقيات قال لما سار علي ع إلى البصرة بعث ابن عباس فقال ائت الزبير فاقرأ عليه السلام و قل له يا أبا عبد الله كيف عرفتنا بالمدينة و أنكرتنا بالبصرة فقال ابن عباس أ فلا آتي طلحة قال لا إذا تجده عاقصا قرنه في حزن يقول هذا سهل . قال فأتيت الزبير فوجدته في بيت يتروح في يوم حار و عبد الله ابنه عنده فقال مرحبا بك يا ابن لبابة أ جئت زائرا أم سفيرا قلت كلا إن ابن خالك يقرأ عليك السلام و يقول لك يا أبا عبد الله كيف عرفتنا بالمدينة و أنكرتنا بالبصرة فقال
علقتهم أني خلقت عصبه
قتادة تعلقت بنشبه
لن أدعهم حتى أؤلف بينهم قال فأردت منه جوابا غير ذلك فقال لي ابنه عبد الله قل له بيننا و بينك دم خليفة و وصية خليفة و اجتماع اثنين و انفراد واحد و أم مبرورة و مشاورة العشيرة قال فعلمت أنه ليس وراء هذا الكلام إلا الحرب فرجعت إلى علي ع فأخبرته .
[ 170 ]
قال الزبير بن بكار هذا الحديث كان يرويه عمي مصعب ثم تركه و قال إني رأيت جدي أبا عبد الله الزبير بن العوام في المنام و هو يعتذر من يوم الجمل فقلت له كيف تعتذر منه و أنت القائل
علقتهم أني خلقت عصبه
قتادة تعلقت بنشبه
لن أدعهم حتى أؤلف بينهم فقال لم أقله
(92/4)

استطراد بلاغي في الكلام على الاستدراج
و اعلم أن في علم البيان بابا يسمى باب الخداع و الاستدراج يناسب ما يذكره فيه علماء البيان قول أمير المؤمنين ع يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجاز و أنكرتني بالعراق . قالوا و من ذلك قول الله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اَللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ فإنه أخذ معهم في الاحتجاج بطريق التقسيم فقال هذا الرجل إما أن يكون كاذبا فكذبه يعود عليه و لا يتعداه و إما أن يكون صادقا فيصيبكم بعض ما يعدكم به و لم يقل كل ما يعدكم به مخادعة لهم و تلطفا و استمالة لقلوبهم كي لا ينفروا منه لو أغلظ في القول و أظهر لهم أنه يهضمه بعض حقه . و كذلك تقديم قسم الكذب على قسم الصدق كأنه رشاهم ذلك و جعله برطيلا لهم ليطمئنوا إلى نصحه .
[ 171 ]
(93/1)

و من ذلك قول إبراهيم على ما حكاه تعالى عنه في قوله إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ اَلشَّيْطانَ إِنَّ اَلشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ اَلرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا فطلب منه في مبدأ الأمر السبب في عبادته الصنم و العلة لذلك و نبهه على أن عبادة ما لا يسمع و لا يبصر و لا يغني عنه شيئا قبيحة ثم لم يقل له إني قد تبحرت في العلوم بل قال له قد حصل عندي نوع من العلم لم يحصل عندك و هذا من باب الأدب في الخطاب ثم نبهه على أن الشيطان عاص لله فلا يجوز اتباعه ثم خوفه من عذاب الله إن اتبع الشيطان و خاطبه في جميع ذلك بقوله يا أَبَتِ استعطافا و استدراجا كقول علي ع يقول لك ابن خالك فلم يجبه أبوه إلى ما أراد و لا قال له يا بني بل قال أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ فخاطبه بالاسم و أتاه بهمزة الاستفهام المتضمنة للإنكار ثم توعده فقال لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا . قالوا و من هذا الباب ما روي أن الحسين بن علي ع كلم معاوية في أمر ابنه يزيد و نهاه عن أن يعهد إليه فأبى عليه معاوية حتى أغضب كل واحد منهما صاحبه فقال الحسين ع في غضون كلامه أبي خير من أبيه و أمي خير من أمه فقال معاوية يا ابن أخي أما أمك فخير من أمه و كيف تقاس امرأة من كلب بابنة رسول الله ص و أما أبوه فحاكم أباك إلى الله تعالى فحكم لأبيه على أبيك .
[ 172 ]
(93/2)

قالوا و هذا من باب الاستدراج اللطيف لأن معاوية علم أنه إن أجابه بجواب يتضمن الدعوى لكونه خيرا من علي ع لم يلتفت أحد إليه و لم يكن له كلام يتعلق به لأن آثار علي ع في الإسلام و شرفه و فضيلته تجل أن يقاس بها أحد فعدل عن ذكر ذلك إلى التعلق بما تعلق به فكان الفلج له . ذكر هذا الخبر نصر الله بن الأثير في كتابه المسمى بالمثل السائر في باب الاستدراج . و عندي أن هذا خارج عن باب الاستدراج و أنه من باب الجوابات الإقناعية التي تسميها الحكماء الجدليات و الخطابيات و هي أجوبة إذا بحث عنها لم يكن وراءها تحقيق و كانت ببادئ النظر مسكتة للخصم صالحة لمصادمته في مقام المجادلة . و مثل ذلك قول معاوية لأهل الشام حيث التحق به عقيل بن أبي طالب يا أهل الشام ما ظنكم برجل لم يصلح لأخيه . و قوله لأهل الشام إن أبا لهب المذموم في القرآن باسمه عم علي بن أبي طالب فارتاع أهل الشام لذلك و شتموا عليا و لعنوه . و من ذلك قول عمر يوم السقيفة أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله ص للصلاة . و من ذلك
قول علي ع مجيبا لمن سأله كم بين السماء و الأرض فقال دعوة مستجابة
[ 173 ]
و جوابه أيضا لمن قال له كم بين المشرق و المغرب فقال مسيرة يوم للشمس . و من ذلك قول أبي بكر و قد قال له عمر أقد خالدا بمالك بن نويرة سيف الله فلا أغمده . و كقوله و قد أشير عليه أيضا بأن يقيد من بعض أمرائه أنا أقيد من وزعة الله ذكر ذلك صاحب الصحاح في باب وزع . و الجوابات الإقناعية كثيرة و لعلها جمهور ما يتداوله الناس و يسكت به بعضهم بعضا
[ 174 ]
(93/3)

32 ـ و من خطبة له ع
أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا فِي دَهْرٍ عَنُودٍ وَ زَمَنٍ شَدِيدٍ كَنُودٍ [ شَدِيدٍ ] يُعَدُّ فِيهِ اَلْمُحْسِنُ مُسِيئاً وَ يَزْدَادُ اَلظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً لاَ نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا وَ لاَ نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا وَ لاَ نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا وَ اَلنَّاسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ مِنْهُمْ مَنْ لاَ يَمْنَعُهُ اَلْفَسَادَ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَهَانَةُ نَفْسِهِ وَ كَلاَلَةُ حَدِّهِ وَ نَضِيضُ وَفْرِهِ وَ مِنْهُمْ اَلْمُصْلِتُ بِسَيْفِهِ لِسَيْفِهِ وَ اَلْمُعْلِنُ بَشَرِّهِ وَ اَلْمُجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ وَ أَوْبَقَ دِينَهُ لِحُطَامٍ يَنْتَهِزُهُ أَوْ مِقْنَبٍ يَقُودُهُ أَوْ مِنْبَرٍ يَفْرَعُهُ وَ لَبِئْسَ اَلْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى اَلدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً وَ مِمَّا لَكَ عِنْدَ اَللَّهِ عِوَضاً وَ مِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ اَلدُّنْيَا بِعَمَلِ اَلآْخِرَةِ وَ لاَ يَطْلُبُ اَلآْخِرَةَ بِعَمَلِ اَلدُّنْيَا قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِهِ وَ قَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ وَ شَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ وَ زَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ لِلْأَمَانَةِ وَ اِتَّخَذَ سِتْرَ اَللَّهِ ذَرِيعَةً إِلَى اَلْمَعْصِيَةِ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ اَلْمُلْكِ ضُئُولَةُ نَفْسِهِ وَ اِنْقِطَاعُ سَبَبِهِ فَقَصَرَتْهُ اَلْحَالُ عَلَى حَالِهِ فَتَحَلَّى بِاسْمِ اَلْقَنَاعَةِ وَ تَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ اَلزَّهَادَةِ وَ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَرَاحٍ وَ لاَ مَغْدًى
[ 175 ]
(94/1)

وَ بَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ اَلْمَرْجِعِ وَ أَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ اَلْمَحْشَرِ فَهُمْ بَيْنَ شَرِيدٍ نَادٍّ وَ خَائِفٍ مَقْمُوعٍ وَ سَاكِتٍ مَكْعُومٍ وَ دَاعٍ مُخْلِصٍ وَ ثَكْلاَنَ مُوجَعٍ قَدْ أَخْمَلَتْهُمُ [ أَحْمَلَتْهُمُ ] اَلتَّقِيَّةُ وَ شَمِلَتْهُمُ اَلذِّلَّةُ فَهُمْ فِي بَحْرٍ أُجَاجٍ أَفْوَاهُهُمْ ضَامِزَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ قَرِحَةٌ قَدْ وَعَظُوا حَتَّى مَلُّوا وَ قُهِرُوا حَتَّى ذَلُّوا وَ قُتِلُوا حَتَّى قَلُّوا فَلْتَكُنِ اَلدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ أَصْغَرَ مِنْ حُثَالَةِ اَلْقَرَظِ وَ قُرَاضَةِ اَلْجَلَمِ وَ اِتَّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ وَ اُرْفُضُوهَا ذَمِيمَةً فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ مَنْ كَانَ أَشْغَفَ بِهَا مِنْكُمْ قال الرضي رحمه الله و هذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية و هي من كلام أمير المؤمنين ع الذي لا يشك فيه و أين الذهب من الرغام و أين العذب من الأجاج و قد دل على ذلك الدليل الخريت و نقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ فإنه ذكر هذه الخطبة في كتاب البيان و التبيين و ذكر من نسبها إلى معاوية ثم تكلم من بعدها بكلام في معناها جملته أنه قال و هذا الكلام بكلام علي ع
[ 176 ]
(94/2)

أشبه و بمذهبه في تصنيف الناس و في الإخبار عما هم عليه من القهر و الإذلال و من التقية و الخوف أليق قال و متى وجدنا معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه مسلك الزهاد و مذاهب العباد دهر عنود جائر عند عن الطريق يعند بالضم أي عدل و جار و يمكن أن يكون من عند يعند بالكسر أي خالف و رد الحق و هو يعرفه إلا أن اسم الفاعل المشهور في ذلك عاند و عنيد و أما عنود فهو اسم فاعل من عند يعند بالضم . قوله و زمن شديد أي بخيل و منه قوله تعالى وَ إِنَّهُ لِحُبِّ اَلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أي و إنه لبخيل لأجل حب الخير و الخير المال و قد روي و زمن كنود و هو الكفور قال تعالى إِنَّ اَلْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ . و القارعة الخطب الذي يقرع أي يصيب . قوله و نضيض وفره أي قلة ماله و كان الأصل و نضاضة وفره ليكون المصدر في مقابلة المصدر الأول و هو كلالة حده لكنه أخرجه على باب إضافة الصفة إلى الموصوف كقولهم عليه سحق عمامة و جرد قطيفة و أخلاق ثياب . قوله و المجلب بخيله و رجله المجلب اسم فاعل من أجلب عليهم أي أعان عليهم . و الرجل جمع راجل كالركب جمع راكب و الشرب جمع شارب و هذا من ألفاظ الكتاب العزيز وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ .
[ 177 ]
و أشرط نفسه أي هيأها و أعدها للفساد في الأرض . و أوبق دينه أهلكه و الحطام المال و أصله ما تكسر من اليبيس . ينتهزه يختلسه . و المقنب خيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين . و يفرعه يعلوه و طامن من شخصه أي خفض و قارب من خطوه لم يسرع و مشى رويدا . و شمر من ثوبه قصره و زخرف من نفسه حسن و نمق و زين و الزخرف الذهب في الأصل . و ضئوله نفسه حقارتها و الناد المنفرد و المكعوم من كعمت البعير إذا شددت فمه و الأجاج الملح . و أفواههم ضامزة بالزاي أي ساكنة قال بشر بن أبي خازم
لقد ضمزت بجرتها سليم
مخافتنا كما ضمز الحمار
(94/3)

و القرظ ورق السلم يدبغ به و حثالته ما يسقط منه . و الجلم المقص تجز به أوبار الإبل و قراضته ما يقع من قرضه و قطعه . فإن قيل بينوا لنا تفصيل هذه الأقسام الأربعة قيل القسم الأول من يقعد به عن طلب الإمرة قلة ماله و حقارته في نفسه . و القسم الثاني من يشمر و يطلب الإمارة و يفسد في الأرض و يكاشف . و القسم الثالث من يظهر ناموس الدين و يطلب به الدنيا . و القسم الرابع من لا مال له أصلا و لا يكاشف و يطلب الملك و لا يطلب الدنيا
[ 178 ]
بالرياء و الناموس بل تنقطع أسبابه كلها فيخلد إلى القناعة و يتحلى بحلية الزهادة في اللذات الدنيوية لا طلبا للدنيا بل عجزا عن الحركة فيها و ليس بزاهد على الحقيقة . فإن قيل فهاهنا قسم خامس قد ذكره ع و هم الأبرار الأتقياء الذين أراق دموعهم خوف الآخرة . قيل إنه ع إنما قال إن الناس على أربعة أصناف و عنى بهم من عدا المتقين و لهذا قال لما انقضى التقسيم و بقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع فأبان بذلك عن أن هؤلاء خارجون عن الأقسام الأربعة
(94/4)

فصل في ذكر الآيات و الأخبار الواردة في ذم الرياء و الشهرة
و اعلم أن هذه الخطبة تتضمن الذم الكثير لمن يدعي الآخرة من أهل زماننا و هم أهل الرياء و النفاق و لابسوا الصوف و الثياب المرقوعة لغير وجه الله . و قد ورد في ذم الرياء شي ء كثير و قد ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم . و من الآيات الواردة في ذلك قوله تعالى يُراؤُنَ اَلنَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اَللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً . و منها قوله تعالى فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً .
[ 179 ]
و منها قوله تعالى إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً . و منها قوله تعالى اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ اَلَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَ يَمْنَعُونَ اَلْماعُونَ
و من الأخبار النبوية قوله ص و قد سأله رجل يا رسول الله فيم النجاة فقال ألا تعمل بطاعة الله و تريد بها الناس
و في الحديث من راءى راءى الله به و من سمع سمع الله به
و في الحديث أن الله تعالى يقول للملائكة إن هذا العمل لم يرد صاحبه به وجهي فاجعلوه في سجين
و قال ص إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا و ما الشرك الأصغر يا رسول الله قال الرياء يقول الله تعالى إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم في الدنيا فاطلبوا جزاءكم منهم
و في حديث شداد بن أوس رأيت النبي ص يبكي فقلت يا رسول الله ما يبكيك فقال إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون صنما و لا شمسا و لا قمرا و لكنهم يراءون بأعمالهم و رأى عمر رجلا يتخشع و يطأطئ رقبته في مشيته فقال له يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب . و رأى أبو أمامة رجلا في المسجد يبكي في سجوده فقال له أنت أنت لو كان هذا في بيتك .
[ 180 ]
(95/1)

و قال علي ع للمرائي أربع علامات يكسل إذا كان وحده و ينشط إذا كان في الناس و يزيد في العمل إذا أثني عليه و ينقص منه إذا لم يثن عليه و قال رجل لعبادة بن الصامت أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجهه و محمدة الناس قال لا شي ء لك فسأله ثلاث مرات كل ذلك يقول لا شي ء لك ثم قال في الثالثة يقول الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك الحديث . و ضرب عمر رجلا بالدرة ثم ظهر له أنه لم يأت جرما فقال له اقتص مني فقال بل أدعها لله و لك قال ما صنعت شيئا إما أن تدعها لي فأعرف ذلك لك أو تدعها لله وحده . و قال الحسن لقد صحبت أقواما إن كان أحدهم لتعرض له الكلمة لو نطق بها لنفعته و نفعت أصحابه ما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة و إن كان أحدهم ليمر فيرى الأذى على الطريق فما يمنعه أن ينحيه إلا مخافة الشهرة . و قال الفضيل كانوا يراءون بما يعملون و صاروا اليوم يراءون بما لا يعملون . و قال عكرمة إن الله تعالى يعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله لأن النية لا رياء فيها . و قال الحسن المرائي يريد أن يغلب قدر الله تعالى هو رجل سوء يريد أن يقول الناس هذا صالح و كيف يقولون و قد حل من ربه محل الأردئاء فلا بد لقلوب المؤمنين أن تعرفه . و قال قتادة إذا راءى العبد قال الله تعالى لملائكته انظروا إلى عبدي يستهزئ بي . و قال الفضيل من أراد أن ينظر مرائيا فلينظر إلي
[ 181 ]
و قال محمد بن المبارك الصوري أظهر السمت بالليل فإنه أشرف من سمتك بالنهار فإن سمت النهار للمخلوقين و سمت الليل لرب العالمين . و قال إبراهيم بن أدهم ما صدق الله من أحب أن يشتهر .
(95/2)

و من الكلام المعزو إلى عيسى ابن مريم ع إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه و لحيته و ليمسح شفتيه لئلا يعلم الناس أنه صائم و إذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله و إذا صلى فليرخ ستر بابه فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق . و من كلام بعض الصالحين آخر ما يخرج من رءوس الصديقين حب الرئاسة .
و روى أنس بن مالك عن رسول الله ص أنه قال يحسب المرء من الشر إلا من عصمه الله من السوء أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه و دنياه إن الله لا ينظر إلى صوركم و لكن ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم
و قال علي ع تبذل لا تشتهر و لا ترفع شخصك لتذكر بعلم و اسكت و اصمت تسلم تسر الأبرار و تغيظ الفجار و كان خالد بن معدان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة . و رأى طلحة بن مصرف قوما يمشون معه نحو عشرة فقال فراش نار و ذبان طمع . و قال سليمان بن حنظلة بينا نحن حوالي أبي بن كعب نمشي إذ رآه عمر فعلاه بالدرة و قال له انظر من حولك إن الذي أنت فيه ذلة للتابع فتنة للمتبوع . و خرج عبد الله بن مسعود من منزله فاتبعه قوم فالتفت إليهم و قال علام تتبعونني فو الله لو تعلمون مني ما أغلق عليه بابي لما تبعني منكم اثنان . و قال الحسن خفق النعال حول الرجال مما يثبت عليهم قلوب الحمقى .
[ 182 ]
(95/3)

و روي أن رجلا صحب الحسن في طريق فلما فارقه قال أوصني رحمك الله قال إن استطعت أن تعرف و لا تعرف و تمشي و لا يمشى إليك و تسأل و لا تسأل فافعل . و خرج أيوب السختياني في سفر فشيعه قوم فقال لو لا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره لخشيت المقت من الله . و عوتب أيوب على تطويل قميصه فقال إن الشهرة كانت فيما مضى في طوله و هي اليوم في قصره . و قال بعضهم كنت مع أبي قلابة إذ دخل رجل عليه كساء فقال إياكم و هذا الحمار الناهق يشير به إلى طالب شهرة . و قال رجل لبشر بن الحارث أوصني فقال أخمل ذكرك و طيب مطعمك . و كان حوشب يبكي و يقول بلغ اسمي المسجد الجامع . و قال بشر ما أعرف رجلا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه و افتضح . و قال أيضا لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس . فهذه الآثار قليل مما ورد عن الصالحين رحمهم الله في ذم الرياء و كون الشهرة طريقا إلى الفتنة
(95/4)

فصل في مدح الخمول و الجنوح إلى العزلة
و قد صرح أمير المؤمنين ع في مدح الأبرار و هم القسم الخامس بمدح الخمول فقال قد أخملتهم التقية يعني الخوف . و قد ورد في الأخبار و الآثار شي ء كثير في مدح الخمول .
قال رسول الله ص رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له
[ 183 ]
لو أقسم على الله لأبر قسمه
و في رواية ابن مسعود رب ذي طمرين لا يؤبه له و لو سأل الجنة لأعطيها
و في الحديث أيضا عنه ص أ لا أدلكم على أهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره أ لا أدلكم على أهل النار كل متكبر جواظ
و عنه ص أن أهل الجنة الشعث الغبر الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم و إذا خطبوا لم ينكحوا و إذا قالوا لم ينصت لهم حوائج أحدهم تتلجلج في صدره لو قسم نورهم يوم القيامة على الناس لوسعهم
و روي أن عمر دخل المسجد فإذا بمعاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله ص فقال ما يبكيك قال سمعت رسول الله ص يقول إن اليسير من الرياء لشرك و إن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا و إذا حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كل غبراء مظلمة
و قال ابن مسعود كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى أحلاس البيوت سرج الليل جدد القلوب خلقان الثياب تعرفون عند أهل السماء و تخفون عند أهل الأرض
و في حديث أبي أمامة يرفعه قال الله تعالى إن أغبط أوليائي لعبد مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة و قد أحسن عبادة ربه و أطاعه في السر و كان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع
و في الحديث السعيد من خمل صيته و قل تراثه و سهلت منيته و قلت بواكيه
[ 184 ]
(96/1)

و قال الفضيل روي لي أن الله تعالى يقول في بعض ما يمن به على عبده أ لم أنعم عليك أ لم أسترك أ لم أخمل ذكرك و كان الخليل بن أحمد يقول في دعائه اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك و اجعلني عند نفسي من أوضع خلقك و اجعلني عند الناس من أوسط خلقك و قال إبراهيم بن أدهم ما قرت عيني ليلة قط في الدنيا إلا مرة بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام و كان بي علة البطن فجرني المؤذن برجلي حتى أخرجني من المسجد . و قال الفضيل إن قدرت على ألا تعرف فافعل و ما عليك ألا تعرف و ما عليك ألا يثنى عليك و ما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله تعالى . فإن قيل فما قولك في شهرة الأنبياء و الأئمة ع و أكابر الفقهاء المجتهدين قيل إن المذموم طلب الشهرة فأما وجودها من الله تعالى من غير تكلف من العبد و لا طلب فليس بمذموم بل لا بد من وجود إنسان يشتهر أمره فإن بطريقه ينصلح العالم و مثال ذلك الغرقى الذين بينهم غريق ضعيف الأولى به ألا يعرفه أحد منهم لئلا يتعلق به فيهلك و يهلكوا معه فإن كان بينهم سابح قوي مشهور بالقوة فالأولى ألا يكون مجهولا بل ينبغي أن يعرف ليتعلقوا به فينجو هو و يتخلصوا من الغرق بطريقه
[ 185 ]
(96/2)

33 ـ و من خطبة له ع عند خروجه لقتال أهل البصرة
و فيها حكمة مبعث الرسل ثم يذكر فضله و يذم الخارجين قَالَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ اَلْعَبَّاسِ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ بِذِي قَارٍ وَ هُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَقَالَ لِي مَا قِيمَةُ هَذَا اَلنَّعْلِ فَقُلْتُ لاَ قِيمَةَ لَهَا فَقَالَ ع وَ اَللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلاَّ أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً ثُمَّ خَرَجَ فَخَطَبَ اَلنَّاسَ فَقَالَ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ص وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ اَلْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً وَ لاَ يَدَّعِي نُبُوَّةً فَسَاقَ اَلنَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ وَ بَلَّغَهُمْ مَنْجَاتَهُمْ فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ وَ اِطْمَأَنَّتْ صَفَاتُهُمْ أَمَا وَ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَفِي سَاقَتِهَا حَتَّى وَلَّتْ تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا مَا ضَعُفْتُ عَجَزْتُ [ ضَعُفْتُ ] وَ لاَ جَبُنْتُ [ وَهَنْتُ ] وَ إِنَّ مَسِيرِي هَذَا لِمِثْلِهَا فَلَأَنْقُبَنَّ [ فَلَأَثْقُبَنَّ ] اَلْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ اَلْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ مَا لِي وَ لِقُرَيْشٍ وَ اَللَّهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ وَ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ وَ إِنِّي لَصَاحِبُهُمْ بِالْأَمْسِ كَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ اَلْيَوْمَ وَ اَللَّهِ مَا تَنْقِمُ مِنَّا قُرَيْشٌ إِلاَّ أَنَّ اَللَّهَ اِخْتَارَنَا عَلَيْهِمْ فَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي حَيِّزِنَا فَكَانُوا كَمَا قَالَ اَلْأَوَّلُ
أَدَمْتَ لَعَمْرِي شُرْبَكَ اَلْمَحْضَ صَابِحاً
وَ أَكْلَكَ بِالزُّبْدِ اَلْمُقَشَّرَةَ اَلْبُجْرَا
وَ نَحْنُ وَهَبْنَاكَ اَلْعَلاَءَ وَ لَمْ تَكُنْ
عَلِيّاً وَ حُطْنَا حَوْلَكَ اَلْجُرْدَ وَ اَلسُّمْرَا
[ 186 ]
(97/1)

ذو قار موضع قريب من البصرة و هو المكان الذي كانت فيه الحرب بين العرب و الفرس و نصرت العرب على الفرس قبل الإسلام . و يخصف نعله أي يخرزها . و بوأهم محلتهم أسكنهم منزلهم أي ضرب الناس بسيفه على الإسلام حتى أوصلهم إليه و مثله و بلغهم منجاتهم إلا أن في هذه الفاصلة ذكر النجاة مصرحا به . فاستقامت قناتهم استقاموا على الإسلام أي كانت قناتهم معوجة فاستقامت . و اطمأنت صفاتهم كانت متقلقلة متزلزلة فاطمأنت و استقرت . و هذه كلها استعارات . ثم أقسم أنه كان في ساقتها حتى تولت بحذافيرها الأصل في ساقتها أن يكون جمع سائق كحائض و حاضة و حائك و حاكة ثم استعملت لفظة الساقة للأخير لأن السائق إنما يكون في آخر الركب أو الجيش . و شبه ع أمر الجاهلية إما بعجاجة ثائرة أو بكتيبة مقبلة للحرب فقال إني طردتها فولت بين يدي و لم أزل في ساقتها أنا أطردها و هي تنطرد أمامي حتى تولت بأسرها و لم يبق منها شي ء ما عجزت عنها و لا جبنت منها . ثم قال و إن مسيري هذا لمثلها فلأنقبن الباطل كأنه جعل الباطل كشي ء قد اشتمل على الحق و احتوى عليه و صار الحق في طيه كالشي ء الكامن المستتر فيه فأقسم لينقبن ذلك الباطل إلى أن يخرج الحق من جنبه و هذا من باب الاستعارة أيضا .
[ 187 ]
ثم قال لقد قاتلت قريشا كافرين و لأقاتلنهم مفتونين لأن الباغي على الإمام مفتون فاسق . و هذا الكلام يؤكد قول أصحابنا إن أصحاب صفين و الجمل ليسوا بكفار خلافا للإمامية فإنهم يزعمون أنهم كفار
(97/2)

خبر يوم ذي قار
روى أبو مخنف عن الكلبي عن أبي صالح عن زيد بن علي عن ابن عباس قال لما نزلنا مع علي ع ذا قار قلت يا أمير المؤمنين ما أقل من يأتيك من أهل الكوفة فيما أظن فقال و الله ليأتيني منهم ستة آلاف و خمسمائة و ستون رجلا لا يزيدون و لا ينقصون . قال ابن عباس فدخلني و الله من ذلك شك شديد في قوله و قلت في نفسي و الله إن قدموا لأعدنهم . قال أبو مخنف فحدث ابن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار قال نفر إلى علي ع إلى ذي قار من الكوفة في البحر و البر ستة آلاف و خمسمائة و ستون رجلا أقام علي بذي قار خمسة عشر يوما حتى سمع صهيل الخيل و شحيح البغال حوله قال فلما سار بهم منقلة قال ابن عباس و الله لأعدنهم فإن كانوا كما قال و إلا أتممتهم من غيرهم فإن الناس قد كانوا سمعوا قوله قال فعرضتهم فو الله ما وجدتهم يزيدون رجلا و لا ينقصون رجلا فقلت الله أكبر صدق الله و رسوله ثم سرنا . قال أبو مخنف و لما بلغ حذيفة بن اليمان أن عليا قد قدم ذا قار و استنفر الناس دعا
[ 188 ]
أصحابه فوعظهم و ذكرهم الله و زهدهم في الدنيا و رغبهم في الآخرة و قال لهم الحقوا بأمير المؤمنين و وصي سيد المرسلين فإن من الحق أن تنصروه و هذا الحسن ابنه و عمار قد قدما الكوفة يستنفران الناس فانفروا . قال فنفر أصحاب حذيفة إلى أمير المؤمنين و مكث حذيفة بعد ذلك خمس عشرة ليلة و توفي رحمه الله تعالى قال أبو مخنف و قال هاشم بن عتبة المرقال يذكر نفورهم إلى علي ع
و سرنا إلى خير البرية كلها
على علمنا أنا إلى الله نرجع
نوقره في فضله و نجله
و في الله ما نرجو و ما نتوقع
و نخصف أخفاف المطي على الوجا
و في الله ما نزجي و في الله نوضع
دلفنا بجمع آثروا الحق و الهدى
إلى ذي تقى في نصره نتسرع
نكافح عنه و السيوف شهيرة
تصافح أعناق الرجال فتقطع
(98/1)

قال أبو مخنف فلما قدم أهل الكوفة على علي ع سلموا عليه و قالوا الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي اختصنا بموازرتك و أكرمنا بنصرتك قد أجبناك طائعين غير مكرهين فمرنا بأمرك .
قال فقام فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله و قال مرحبا بأهل الكوفة بيوتات العرب و وجوهها و أهل الفضل و فرسانها و أشد العرب مودة لرسول الله ص و لأهل بيته و لذلك بعثت إليكم و استصرختكم عند نقض طلحة و الزبير بيعتي عن غير جور مني و لا حدث و لعمري لو لم تنصروني بأهل الكوفة لرجوت أن يكفيني الله غوغاء الناس و طغام أهل البصرة مع أن عامة من بها و وجوهها و أهل الفضل و الدين قد اعتزلوها و رغبوا عنها فقام رءوس القبائل فخطبوا و بذلوا له النصر فأمرهم بالرحيل إلى البصرة
[ 189 ]
(98/2)

34 ـ و من خطبة له ع في استنفار الناس إلى أهل الشام
أُفٍّ لَكُمْ لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَكُمْ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا مِنَ اَلآْخِرَةِ عِوَضاً وَ بِالذُّلِّ مِنَ اَلْعِزِّ خَلَفاً إِذَا دَعَوْتُكُمْ إِلَى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ كَأَنَّكُمْ مِنَ اَلْمَوْتِ فِي غَمْرَةٍ وَ مِنَ اَلذُّهُولِ فِي سَكْرَةٍ يُرْتَجُ عَلَيْكُمْ حِوَارِي فَتَعْمَهُونَ فَكَأَنَّ وَ كَأَنَّ قُلُوبَكُمْ مَأْلُوسَةٌ فَأَنْتُمْ لاَ تَعْقِلُونَ مَا أَنْتُمْ لِي بِثِقَةٍ سَجِيسَ اَللَّيَالِي وَ مَا أَنْتُمْ بِرُكْنٍ يُمَالُ بِكُمْ وَ لاَ زَوَافِرَ عِزٍّ يُفْتَقَرُ إِلَيْكُمْ مَا أَنْتُمْ إِلاَّ كَإِبِلٍ ضَلَّ رُعَاتُهَا فَكُلَّمَا جُمِعَتْ [ اِجْتَمَعَتْ ] مِنْ جَانِبٍ اِنْتَشَرَتْ مِنْ آخَرَ لَبِئْسَ لَعَمْرُ اَللَّهِ سُعْرُ نَارِ اَلْحَرْبِ أَنْتُمْ تُكَادُونَ وَ لاَ تَكِيدُونَ وَ تُنْتَقَصُ أَطْرَافُكُمْ فَلاَ تَمْتَعِضُونَ لاَ يُنَامُ عَنْكُمْ وَ أَنْتُمْ فِي غَفْلَةٍ سَاهُونَ غُلِبَ وَ اَللَّهِ اَلْمُتَخَاذِلُونَ وَ اَيْمُ اَللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّ بِكُمْ أَنْ لَوْ حَمِسَ [ حَمَشَ ] اَلْوَغَى وَ اِسْتَحَرَّ اَلْمَوْتُ قَدِ اِنْفَرَجْتُمْ عَنِ اِبْنِ أَبِي طَالِبٍ اِنْفِرَاجَ اَلرَّأْسِ وَ اَللَّهِ إِنَّ اِمْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ يَعْرُقُ لَحْمَهُ وَ يَهْشِمُ عَظْمَهُ وَ يَفْرِي جِلْدَهُ لَعَظِيمٌ عَجْزُهُ ضَعِيفٌ مَا ضُمَّتْ عَلَيْهِ جَوَانِحُ صَدْرِهِ أَنْتَ فَكُنْ ذَاكَ إِنْ شِئْتَ فَأَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ تَطِيرُ مِنْهُ فَرَاشُ اَلْهَامِ وَ تَطِيحُ اَلسَّوَاعِدُ وَ اَلْأَقْدَامُ وَ يَفْعَلُ اَللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً وَ لَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ
(99/1)

فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ
[ 190 ]
لَكُمْ وَ تَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ وَ تَعْلِيمُكُمْ كَيْلاَ تَجْهَلُوا وَ تَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا وَ أَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ وَ اَلنَّصِيحَةُ فِي اَلْمَشْهَدِ وَ اَلْمَغِيبِ وَ اَلْإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ وَ اَلطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ أف لكم كلمة استقذار و مهانة و فيها لغات و يرتج يغلق و الحوار المحاورة و المخاطبة و تعمهون من العمه و هو التحير و التردد الماضي عمه بالكسر . و قوله دارت أعينكم من قوله تعالى يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ اَلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ و من قوله تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ . و قلوبكم مألوسة من الألس بسكون اللام و هو الجنون و اختلاط العقل . قوله ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي كلمة تقال للأبد تقول لا أفعله سجيس الليالي و سجيس عجيس و سجيس الأوجس معنى ذلك كله الدهر و الزمان و أبدا . قوله ما أنتم بركن يمال بكم أي لستم بركن يستند إليكم و يمال على العدو بعزكم و قوتكم . قوله و لا زوافر عز جمع زافرة و زافرة الرجل أنصاره و عشيرته و يجوز أن يكون زوافر عز أي حوامل عز زفرت الجمل أزفره زفرا أي حملته . قوله سعر نار الحرب جمع ساعر كقولك قوم كظم للغيظ جمع كاظم
[ 191 ]
(99/2)

و تمتعضون تأنفون و تغضبون و حمس الوغى اشتد و أصل الوغى الصوت و الجلبة ثم سميت الحرب نفسها وغى لما فيها من الأصوات و الجلبة و استحر الموت أي اشتد . و قوله انفرجتم انفراج الرأس أي كما ينفلق الرأس فيذهب نصفه يمنة و نصفه شامة و المشرفية السيوف المنسوبة إلى مشارف و هي قرى من أرض العرب تدنو من الريف و لا يقال مشارفي كما لا يقال جعافري لمن ينسب إلى جعافر . و فراش الهام العظام الخفيفة تلي القحف . و قال الراوندي في تفسير قوله انفراج الرأس أراد به انفرجتم عني رأسا أي قطعا و عرفه بالألف و اللام و هذا غير صحيح لأن رأسا لا يعرف قال و له تفسير آخر أن يكون المعنى انفراج رأس من أدنى رأسه إلى غيره ثم حرف رأسه عنه . و هذا أيضا غير صحيح لأنه لا خصوصية للرأس في ذلك فإن اليد و الرجل إذا أدنيتهما من شخص ثم حرفتهما عنه فقد انفرج ما بين ذلك العضو و بينه فأي معنى لتخصيص الرأس بالذكر . فأما قوله أنت فكن ذاك فإنه إنما خاطب من يمكن عدوه من نفسه كائنا من كان غير معين و لا مخصص و لكن الرواية وردت بأنه خاطب بذلك الأشعث بن قيس فإنه روي أنه قال له ع و هو يخطب و يلوم الناس على تثبيطهم و تقاعدهم هلا فعلت فعل ابن عفان فقال له إن فعل ابن عفان لمخزاة على من لا دين له و لا وثيقة معه إن امرأ أمكن عدوه من نفسه يهشم عظمه و يفري جلده لضعيف رأيه مأفون عقله أنت فكن ذاك إن أحببت فأما أنا فدون أن أعطي ذاك ضرب بالمشرفية الفصل .
[ 192 ]
و يمكن أن تكون الرواية صحيحة و الخطاب عام لكل من أمكن من نفسه فلا منافاة بينهما . و قد نظمت أنا هذه الألفاظ في أبيات كتبتها إلى صاحب لي في ضمن مكتوب اقتضاها و هي
إن امرأ أمكن من نفسه
عدوه يجدع آرابه
لا يدفع الضيم و لا ينكر الذل
و لا يحصن جلبابه
لفائل الرأي ضعيف القوى
قد صرم الخذلان أسبابه
أنت فكن ذاك فإني امرؤ
لا يرهب الخطب إذا نابه
إن قال دهر لم يطع أو شحا
(99/3)

له فم أدرد أنيابه
أو سامه الخسف أبى و انتضى
دون مرام الخسف قرضابه
أخزر غضبان شديد السطا
يقدر أن يترك ما رابه
خطب أمير المؤمنين ع بهذه الخطبة بعد فراغه من أمر الخوارج و قد كان قام بالنهروان فحمد الله و أثنى عليه و قال أما بعد فإن الله قد أحسن نصركم فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم من أهل الشام . فقاموا إليه فقالوا يا أمير المؤمنين نفدت نبالنا و كلت سيوفنا و انصلتت أسنة رماحنا و عاد أكثرها قصدا ارجع بنا إلى مصرنا نستعد بأحسن عدتنا و لعل أمير المؤمنين يزيد في عددنا مثل من هلك منا فإنه أقوى لنا على عدونا .
[ 193 ]
فكان جوابه ع يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم و لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . فتلكئوا عليه و قالوا إن البرد شديد . فقال إنهم يجدون البرد كما تجدون فتلكئوا و أبوا فقال أف لكم إنها سنة جرت ثم تلا قوله تعالى قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ . فقام منهم ناس فقالوا يا أمير المؤمنين الجراح فاشية في الناس و كان أهل النهروان قد أكثروا الجراح في عسكر أمير المؤمنين ع فارجع إلى الكوفة فأقم بها أياما ثم اخرج خار الله لك فرجع إلى الكوفة عن غير رضا
(99/4)

أمر الناس بعد وقعة النهروان
و روى نصر بن مزاحم عن عمر بن سعد عن نمير بن وعلة عن أبي وداك قال لما كره القوم المسير إلى الشام عقيب واقعة النهروان أقبل بهم أمير المؤمنين فأنزلهم النخيلة و أمر الناس أن يلزموا معسكرهم و يوطنوا على الجهاد أنفسهم و أن يقلوا زيارة النساء و أبنائهم حتى يسير بهم إلى عدوهم و كان ذلك هو الرأي لو فعلوه لكنهم لم يفعلوا و أقبلوا يتسللون و يدخلون الكوفة فتركوه ع و ما معه من الناس إلا رجال من وجوههم قليل و بقي المعسكر خاليا فلا من دخل الكوفة خرج إليه و لا من أقام معه صبر فلما رأى ذلك دخل الكوفة .
[ 194 ]
قال نصر بن مزاحم فخطب الناس بالكوفة و هي أول خطبة خطبها بعد قدومه من حرب الخوارج فقال أيها الناس استعدوا لقتال عدو في جهادهم القربة إلى الله عز و جل و درك الوسيلة عنده قوم حيارى عن الحق لا يبصرونه موزعين بالجور و الظلم لا يعدلون به جفاة عن الكتاب نكب عن الدين يعمهون في الطغيان و يتسكعون في غمرة الضلال ف أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ و توكلوا على الله و كفى بالله وكيلا . قال فلم ينفروا و لم ينشروا فتركهم أياما ثم خطبهم فقال أف لكم لقد سئمت عتابكم أ رضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا الفصل الذي شرحناه آنفا إلى آخره و زاد فيه أنتم أسود الشرى في الدعة و ثعالب رواغة حين البأس إن أخا الحرب اليقظان ألا إن المغلوب مقهور و مسلوب .
(100/1)

و روى الأعمش عن الحكم بن عتيبة عن قيس بن أبي حازم قال سمعت عليا ع على منبر الكوفة و هو يقول يا أبناء المهاجرين انفروا إلى أئمة الكفر و بقية الأحزاب و أولياء الشيطان انفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا فو الله الذي فلق الحبة و برأ النسمة إنه ليحمل خطاياهم إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئا قلت هذا قيس بن أبي حازم و هو الذي روى حديث إنكم لترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا نضامون في رؤيته و قد طعن مشايخنا المتكلمون فيه و قالوا إنه فاسق و لا تقبل روايته لأنه قال إني سمعت عليا يخطب على منبر الكوفة
[ 195 ]
و يقول انفروا إلى بقية الأحزاب فأبغضته و دخل بغضه في قلبي و من يبغض عليا ع لا تقبل روايته . فإن قيل فما يقول مشايخكم في قوله ع انفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا أ ليس هذا طعنا منه ع في عثمان قيل الأشهر الأكثر في الرواية صدر الحديث و أما عجز الحديث فليس بمشهور تلك الشهرة و إن صح حملناه على أنه أراد به معاوية و سمى ناصريه مقاتلين على دمه لأنهم يحامون عن دمه و من حامى عن دم إنسان فقد قاتل عليه . و روى أبو نعيم الحافظ قال حدثنا أبو عاصم الثقفي قال جاءت امرأة من بني عبس إلى علي ع و هو يخطب بهذه الخطبة على منبر الكوفة فقالت يا أمير المؤمنين ثلاث بلبلن القلوب عليك قال و ما هن ويحك قالت رضاك بالقضية و أخذك بالدنية و جزعك عند البلية فقال إنما أنت امرأة فاذهبي فاجلسي على ذيلك فقالت لا و الله ما من جلوس إلا تحت ظلال السيوف .
(100/2)

و روى عمرو بن شمر الجعفي عن جابر عن رفيع بن فرقد البجلي قال سمعت عليا ع يقول يا أهل الكوفة لقد ضربتكم بالدرة التي أعظ بها السفهاء فما أراكم تنتهون و لقد ضربتكم بالسياط التي أقيم بها الحدود فما أراكم ترعوون فلم يبق إلا أن أضربكم بسيفي و إني لأعلم ما يقومكم و لكني لا أحب أن ألي ذلك منكم وا عجبا لكم و لأهل الشام أميرهم يعصي الله و هم يطيعونه و أميركم يطيع الله و أنتم تعصونه و الله لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني و لو سقت الدنيا بحذافيرها إلى الكافر لما أحبني و ذلك أنه قضى ما قضى على لسان النبي الأمي أنه لا يبغضني
[ 196 ]
(100/3)

مؤمن و لا يحبني كافر و قد خاب من حمل ظلما و الله لتصبرن يا أهل الكوفة على قتال عدوكم أو ليسلطن الله عليكم قوما أنتم أولى بالحق منهم فليعذبنكم أ فمن قتلة بالسيف تحيدون إلى موتة على الفراش و الله لموتة على الفراش أشد من ضربة ألف سيف . قلت ما أحسن قول أبي العيناء و قد قال له المتوكل إلى متى تمدح الناس و تهجوهم فقال ما أحسنوا و أساءوا و هذا أمير المؤمنين ع و هو سيد البشر بعد رسول الله ص يمدح الكوفة و أهلها عقيب الانتصار على أصحاب الجمل بما قد ذكرنا بعضه و سنذكر باقيه مدحا ليس باليسير و لا بالمستصغر و يقول للكوفة عند نظره إليها أهلا بك و بأهلك ما أرادك جبار بكيد إلا قصمه الله و يثني عليها و على أهلها حسب ذمه للبصرة و عيبه لها و دعائه عليها و على أهلها فلما خذله أهل الكوفة يوم التحكيم و تقاعدوا عن نصره على أهل الشام و خرج منهم الخوارج و مرق منهم المراق ثم استنفرهم بعد فلم ينفروا و استصرخهم فلم يصرخوا و رأى منهم دلائل الوهن و أمارات الفشل انقلب ذلك المدح ذما و ذلك الثناء استزادة و تقريعا و تهجينا . و هذا أمر مركوز في طبيعة البشر و قد كان رسول الله ص كذلك و القرآن العزيز أيضا كذلك أثنى على الأنصار لما نهضوا و ذمهم لما قعدوا في غزاة تبوك فقال فَرِحَ اَلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اَللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ الآيات إلى أن رضي الله عنهم فقال وَ عَلَى
[ 197 ]
اَلثَّلاثَةِ اَلَّذِينَ خُلِّفُوا أي عن رسول الله حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ الآية
(100/4)

مناقب علي و ذكر طرف من أخباره في عدله و زهده
روى علي بن محمد بن أبي سيف المدائني عن فضيل بن الجعد قال آكد الأسباب في تقاعد العرب عن أمير المؤمنين ع أمر المال فإنه لم يكن يفضل شريفا على مشروف و لا عربيا على عجمي و لا يصانع الرؤساء و أمراء القبائل كما يصنع الملوك و لا يستميل أحدا إلى نفسه و كان معاوية بخلاف ذلك فترك الناس عليا و التحقوا بمعاوية فشكا علي ع إلى الأشتر تخاذل أصحابه و فرار بعضهم إلى معاوية فقال الأشتر يا أمير المؤمنين إنا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة و أهل الكوفة و رأي الناس واحد و قد اختلفوا بعد و تعادوا و ضعفت النية و قل العدد و أنت تأخذهم بالعدل و تعمل فيهم بالحق و تنصف الوضيع من الشريف فليس للشريف عندك فضل منزلة على الوضيع فضجت طائفة ممن معك من الحق إذ عموا به و اغتموا من العدل إذ صاروا فيه و رأوا صنائع معاوية عند أهل الغناء و الشرف فتاقت أنفس الناس إلى الدنيا و قل من ليس للدنيا بصاحب و أكثرهم يجتوي الحق و يشتري الباطل و يؤثر الدنيا فإن تبذل المال يا أمير المؤمنين تمل إليك أعناق الرجال و تصف نصيحتهم لك و تستخلص ودهم صنع الله لك يا أمير المؤمنين و كبت أعداءك و فض جمعهم و أوهن كيدهم و شتت أمورهم إنه بما يعملون خبير
فقال علي ع :
[ 198 ]
(101/1)

أما ما ذكرت من عملنا و سيرتنا بالعدل فإن الله عز و جل يقول مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ و أنا من أن أكون مقصرا فيما ذكرت أخوف و أما ما ذكرت من أن الحق ثقل عليهم ففارقونا لذلك فقد علم الله أنهم لم يفارقونا من جور و لا لجئوا إذ فارقونا إلى عدل و لم يلتمسوا إلا دنيا زائلة عنهم كأن قد فارقوها و ليسألن يوم القيامة أ للدنيا أرادوا أم لله عملوا و أما ما ذكرت من بذل الأموال و اصطناع الرجال فإنه لا يسعنا أن نؤتي امرأ من الفي ء أكثر من حقه و قد قال الله سبحانه و تعالى و قوله الحق كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ مَعَ اَلصَّابِرِينَ و قد بعث الله محمدا ص وحده فكثره بعد القلة و أعز فئته بعد الذلة و إن يرد الله أن يولينا هذا الأمر يذلل لنا صعبه و يسهل لنا حزنه و أنا قابل من رأيك ما كان لله عز و جل رضا و أنت من آمن الناس عندي و أنصحهم لي و أوثقهم في نفسي إن شاء الله . و ذكر الشعبي قال دخلت الرحبة بالكوفة و أنا غلام في غلمان فإذا أنا بعلي ع قائما على صبرتين من ذهب و فضة و معه مخفقة و هو يطرد الناس بمخفقته ثم يرجع إلى المال فيقسمه بين الناس حتى لم يبق منه شي ء ثم انصرف و لم يحمل إلى بيته قليلا و لا كثيرا فرجعت إلى أبي فقلت له لقد رأيت اليوم خير الناس أو أحمق الناس قال من هو يا بني قلت علي بن أبي طالب أمير المؤمنين رأيته يصنع كذا فقصصت عليه فبكى و قال يا بني بل رأيت خير الناس .
[ 199 ]
(101/2)

و روى محمد بن فضيل عن هارون بن عنترة عن زاذان قال انطلقت مع قنبر غلام علي ع فإذا هو يقول قم يا أمير المؤمنين فقد خبأت لك خبيئا قال و ما هو ويحك قال قم معي فانطلق به إلى بيته و إذا بغرارة مملوءة من جامات ذهبا و فضة فقال يا أمير المؤمنين رأيتك لا تترك شيئا إلا قسمته فادخرت لك هذا من بيت المال فقال علي ع ويحك يا قنبر لقد أحببت أن تدخل بيتي نارا عظيمة ثم سل سيفه و ضربه ضربات كثيرة فانتثرت من بين إناء مقطوع نصفه و آخر ثلثه و نحو ذلك ثم دعا بالناس فقال اقسموه بالحصص ثم قام إلى بيت المال فقسم ما وجد فيه ثم رأى في البيت إبرا و مسال فقال و لتقسموا هذا فقالوا لا حاجة لنا فيه و قد كان علي ع يأخذ من كل عامل مما يعمل فضحك و قال ليؤخذن شره مع خيره . و روى عبد الرحمن بن عجلان قال كان علي ع يقسم بين الناس الأبزار و الحرف و الكمون و كذا و كذا .
و روى مجمع التيمي قال كان علي ع يكنس بيت المال كل جمعة و يصلي فيه ركعتين و يقول ليشهد لي يوم القيامة
و روى بكر بن عيسى عن عاصم بن كليب الجرمي عن أبيه قال شهدت عليا ع و قد جاءه مال من الجبل فقام و قمنا معه و جاء الناس يزدحمون فأخذ حبالا فوصلها بيده و عقد بعضها إلى بعض ثم أدارها حول المال و قال لا أحل لأحد أن يجاوز هذا الحبل قال فقعد الناس كلهم من وراء الحبل و دخل هو فقال أين رءوس الأسباع و كانت الكوفة يومئذ أسباعا فجعلوا يحملون هذه الجوالق إلى هذه الجوالق و هذا إلى هذا حتى استوت القسمة سبعة أجزاء و وجد مع المتاع
[ 200 ]
رغيف فقال اكسروه سبع كسر و ضعوا على كل جزء كسرة ثم قال
هذا جناي و خياره فيه
إذ كل جان يده إلى فيه
ثم أقرع عليها و دفعها إلى رءوس الأسباع فجعل كل رجل منهم يدعو قومه فيحملون الجواليق
(101/3)

و روى مجمع عن أبي رجاء قال أخرج علي ع سيفا إلى السوق فقال من يشتري مني هذا فو الذي نفس علي بيده لو كان عندي ثمن إزار ما بعته فقلت له أنا أبيعك إزارا و أنسئك ثمنه إلى عطائك فدفعت إليه إزارا إلى عطائه فلما قبض عطاءه دفع إلي ثمن الإزار
و روى هارون بن سعيد قال قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لعلي ع يا أمير المؤمنين لو أمرت لي بمعونة أو نفقة فو الله ما لي نفقة إلا أن أبيع دابتي فقال لا و الله ما أجد لك شيئا إلا أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك
و روى بكر بن عيسى قال كان علي ع يقول يا أهل الكوفة إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي و رحلي و غلامي فلان فأنا خائن فكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة بينبع و كان يطعم الناس منها الخبز و اللحم و يأكل هو الثريد بالزيت
و روى أبو إسحاق الهمداني أن امرأتين أتتا عليا ع إحداهما من العرب و الأخرى من الموالي فسألتاه فدفع إليهما دراهم و طعاما بالسواء فقالت إحداهما
[ 201 ]
إني امرأة من العرب و هذه من العجم فقال إني و الله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفي ء فضلا على بني إسحاق
و روى معاوية بن عمار عن جعفر بن محمد ع قال ما اعتلج على علي ع أمران في ذات الله إلا أخذ بأشدهما و لقد علمتم أنه كان يأكل يا أهل الكوفة عندكم من ماله بالمدينة و أن كان ليأخذ السويق فيجعله في جراب و يختم عليه مخافة أن يزاد عليه من غيره و من كان أزهد في الدنيا من علي ع
و روى النضر بن منصور عن عقبة بن علقمة قال دخلت على علي ع فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته و كسر يابسة فقلت يا أمير المؤمنين أ تأكل مثل هذا فقال لي يا أبا الجنوب كان رسول الله يأكل أيبس من هذا و يلبس أخشن من هذا و أشار إلى ثيابه فإن أنا لم آخذ بما أخذ به خفت ألا ألحق به
(101/4)

و روى عمران بن مسلمة عن سويد بن علقمة قال دخلت على علي ع بالكوفة فإذا بين يديه قعب لبن أجد ريحه من شدة حموضته و في يده رغيف ترى قشار الشعير على وجهه و هو يكسره و يستعين أحيانا بركبته و إذا جاريته فضة قائمة على رأسه فقلت يا فضة أ ما تتقون الله في هذا الشيخ أ لا نخلتم دقيقه فقالت إنا نكره أن نؤجر و يأثم نحن قد أخذ علينا ألا ننخل له دقيقا ما صحبناه قال و علي ع لا يسمع ما تقول فالتفت إليها فقال ما تقولين قالت سله فقال لي ما قلت لها قال فقلت إني قلت لها لو نخلتم دقيقه فبكى ثم قال بأبي و أمي من لم يشبع ثلاثا متوالية من خبز بر حتى فارق الدنيا و لم ينخل دقيقه قال يعني رسول الله ص
[ 202 ]
و روى يوسف بن يعقوب عن صالح بياع الأكسية أن جدته لقيت عليا ع بالكوفة و معه تمر يحمله فسلمت عليه و قالت له أعطني يا أمير المؤمنين هذا التمر أحمله عنك إلى بيتك فقال أبو العيال أحق بحمله قالت ثم قال لي أ لا تأكلين منه فقلت لا أريد قالت فانطلق به إلى منزله ثم رجع مرتديا بتلك الشملة و فيها قشور التمر فصلى بالناس فيها الجمعة
و روى محمد بن فضيل بن غزوان قال قيل لعلي ع كم تتصدق كم تخرج مالك أ لا تمسك قال إني و الله لو أعلم أن الله تعالى قبل مني فرضا واحدا لأمسكت و لكني و الله ما أدري أ قبل مني سبحانه شيئا أم لا
روى عنبسة العابد عن عبد الله بن الحسين بن الحسن قال أعتق علي ع في حياة رسول الله ص ألف مملوك مما مجلت يداه و عرق جبينه و لقد ولي الخلافة و أتته الأموال فما كان حلواه إلا التمر و لا ثيابه إلا الكرابيس
و روى العوام بن حوشب عن أبي صادق قال تزوج علي ع ليلى بنت مسعود النهشلية فضربت له في داره حجلة فجاء فهتكها و قال حسب أهل علي ما هم فيه
(101/5)

و روى حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد ع قال ابتاع علي ع في خلافته قميصا سملا بأربعة دراهم ثم دعا الخياط فمد كم القميص و أمره بقطع ما جاوز الأصابع . و إنما ذكرنا هذه الأخبار و الروايات و إن كانت خارجة عن مقصد الفصل لأن الحال اقتضى ذكرها من حيث أردنا أن نبين أن أمير المؤمنين ع لم يكن
[ 203 ]
يذهب في خلافته مذهب الملوك الذين يصانعون بالأموال و يصرفونها في مصالح ملكهم و ملاذ أنفسهم و أنه لم يكن من أهل الدنيا و إنما كان رجلا متألها صاحب حق لا يريد بالله و رسوله بدلا . و
روى علي بن محمد بن أبي يوسف المدائني أن طائفة من أصحاب علي ع مشوا إليه فقالوا يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال و فضل هؤلاء الأشراف من العرب و قريش على الموالي و العجم و استمل من تخاف خلافه من الناس و فراره و إنما قالوا له ذلك لما كان معاوية يصنع في المال فقال لهم أ تأمرونني أن أطلب النصر بالجور لا و الله لا أفعل ما طلعت شمس و ما لاح في السماء نجم و الله لو كان المال لي لواسيت بينهم فكيف و إنما هي أموالهم ثم سكت طويلا واجما ثم قال الأمر أسرع من ذلك قالها ثلاثا
[ 204 ]
(101/6)

35 ـ و من خطبة له ع بعد التحكيم
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ وَ إِنْ أَتَى اَلدَّهْرُ بِالْخَطْبِ اَلْفَادِحِ وَ اَلْحَدَثِ اَلْجَلِيلِ وَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ غَيْرُهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ ص أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ اَلنَّاصِحِ اَلشَّفِيقِ اَلْعَالِمِ اَلْمُجَرِّبِ تُورِثُ اَلْحَسْرَةَ وَ تُعْقِبُ اَلنَّدَامَةَ وَ قَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ اَلْحُكُومَةِ أَمْرِي وَ نَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ اَلْمُخَالِفِينَ اَلْجُفَاةِ وَ اَلْمُنَابِذِينَ اَلْعُصَاةِ حَتَّى اِرْتَابَ اَلنَّاصِحُ بِنُصْحِهِ وَ ضَنَّ اَلزَّنْدُ بِقَدْحِهِ فَكُنْتُ أَنَا وَ إِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ
أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اَللِّوَى
فَلَمْ تَسْتَبِينُوا اَلنُّصْحَ [ اَلرُّشْدَ ] إِلاَّ ضُحَى اَلْغَدِ
الخطب الفادح الثقيل و نخلت لكم أي أخلصته من نخلت الدقيق بالمنخل . و قوله الحمد لله و إن أتى الدهر أي أحمده على كل حال من السراء و الضراء . و قوله لو كان يطاع لقصير أمر فهو قصير صاحب جذيمة و حديثة مع جذيمة و مع الزباء مشهور فضرب المثل لكل ناصح يعصى بقصير .
[ 205 ]
(102/1)

و قوله حتى ارتاب الناصح بنصحه و ضن الزند بقدحه يشير إلى نفسه يقول خالفتموني حتى ظننت أن النصح الذي نصحتكم به غير نصح و لإطباقكم و إجماعكم على خلافي و هذا حق لأن ذا الرأي الصواب إذا كثر مخالفوه يشك في نفسه . و أما ضن الزند بقدحه فمعناه أنه لم يقدح لي بعد ذلك رأي صالح لشدة ما لقيت منكم من الإباء و الخلاف و العصيان و هذا أيضا حق لأن المشير الناصح إذا اتهم و استغش عمي قلبه و فسد رأيه . و أخو هوازن صاحب الشعر هو دريد بن الصمة و الأبيات مذكورة في الحماسة و أولها
نصحت لعارض و أصحاب عارض
و رهط بني السوداء و القوم شهدي
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
سراتهم في الفارسي المسرد
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم و قد أرى
غوايتهم و أنني غير مهتد
و ما أنا إلا من غزية إن غوت
غويت و إن ترشد غزية أرشد
[ 206 ]
و هذه الألفاظ من خطبة خطب بها ع بعد خديعة ابن العاص لأبي موسى و افتراقهما و قبل وقعة النهروان
(102/2)

قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج
و يجب أن نذكر في هذا الفصل أمر التحكيم كيف كان و ما الذي دعا إليه فنقول إن الذي دعا إليه طلب أهل الشام له و اعتصامهم به من سيوف أهل العراق فقد كانت أمارات القهر و الغلبة لاحت و دلائل النصر و الظفر وضحت فعدل أهل الشام عن القراع إلى الخداع و كان ذلك برأي عمرو بن العاص . و هذه الحال وقعت عقيب ليلة الهرير و هي الليلة العظيمة التي يضرب بها المثل . و نحن نذكر ما أورده نصر بن مزاحم في كتاب صفين في هذا المعنى فهو ثقة ثبت صحيح النقل غير منسوب إلى هوى و لا إدغال و هو من رجال أصحاب الحديث قال نصر حدثنا عمرو بن شمر قال حدثني أبو ضرار قال حدثني عمار بن ربيعة قال غلس علي ع بالناس صلاة الغداة يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الأول سنة سبع و ثلاثين و قيل عاشر شهر صفر ثم زحف إلى أهل الشام بعسكر العراق و الناس على راياتهم و أعلامهم و زحف إليهم أهل الشام و قد كانت الحرب أكلت الفريقين و لكنها
[ 207 ]
في أهل الشام أشد نكاية و أعظم وقعا فقد ملوا الحرب و كرهوا القتال و تضعضعت أركانهم . قال فخرج رجل من أهل العراق على فرس كميت ذنوب عليه السلاح لا يرى منه إلا عيناه و بيده الرمح فجعل يضرب رءوس أهل العراق بالقناة و يقول سووا صفوفكم رحمكم الله حتى إذا عدل الصفوف و الرايات استقبلهم بوجهه و ولى أهل الشام ظهره ثم حمد الله و أثنى عليه و قال الحمد لله الذي جعل فينا ابن عم نبيه أقدمهم هجرة و أولهم إسلاما سيف من سيوف الله على أعدائه فانظروا إذا حمي الوطيس و ثار القتام و تكسر المران و جالت الخيل بالأبطال فلا أسمع إلا غمغمة أو همهمة فاتبعوني و كونوا في أثري . ثم حمل على أهل الشام فكسر فيهم رمحه ثم رجع فإذا هو الأشتر .
(103/1)

قال و خرج رجل من أهل الشام فنادى بين الصفين يا أبا الحسن يا علي ابرز إلي فخرج إليه علي ع حتى اختلفت أعناق دابتيهما بين الصفين فقال إن لك يا علي لقدما في الإسلام و الهجرة فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدماء و تأخر هذه الحروب حتى ترى رأيك قال و ما هو قال ترجع إلى
[ 208 ]
عراقك فنخلي بينك و بين العراق و نرجع نحن إلى شامنا فتخلي بيننا و بين الشام فقال علي ع قد عرفت ما عرضت إن هذه لنصيحة و شفقة و لقد أهمني هذا الأمر و أسهرني و ضربت أنفه و عينه فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد إن الله تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض و هم سكوت مذعنون لا يأمرون بمعروف و لا ينهون عن منكر فوجدت القتال أهون علي من معالجة في الأغلال في جهنم قال فرجع الرجل و هو يسترجع و زحف الناس بعضهم إلى بعض فارتموا بالنبل و الحجارة حتى فنيت ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت و اندقت ثم مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسيوف و عمد الحديد فلم يسمع السامعون إلا وقع الحديد بعضه على بعض لهو أشد هولا في صدور الرجال من الصواعق و من جبال تهامة يدك بعضها بعضا و انكسفت الشمس بالنقع و ثار القتام و القسطل و ضلت الألوية و الرايات و أخذ الأشتر يسير فيما بين الميمنة و الميسرة فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء بالإقدام على التي تليها فاجتلدوا بالسيوف و عمد الحديد من صلاة الغداة من اليوم المذكور إلى نصف الليل لم يصلوا لله صلاة فلم يزل الأشتر يفعل ذلك حتى أصبح و المعركة خلف ظهره و افترقوا عن سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم و تلك الليلة و هي ليلة الهرير المشهورة و كان الأشتر في ميمنة الناس و ابن عباس في الميسرة و علي ع في القلب و الناس يقتتلون . ثم استمر القتال من نصف الليل الثاني إلى ارتفاع الضحى و الأشتر يقول لأصحابه
[ 209 ]
(103/2)

و هو يزحف بهم نحو أهل الشام ازحفوا قيد رمحي هذا و يلقي رمحه فإذا فعلوا ذلك قال ازحفوا قاب هذا القوس فإذا فعلوا ذلك سألهم مثل ذلك حتى مل أكثر الناس من الإقدام فلما رأى ذلك قال أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم ثم دعا بفرسه و ركز رايته و كانت مع حيان بن هوذة النخعي و سار بين الكتائب و هو يقول أ لا من يشتري نفسه لله و يقاتل مع الأشتر حتى يظهر أو يلحق بالله فلا يزال الرجل من الناس يخرج إليه فيقاتل معه . قال نصر و حدثني عمرو قال حدثني أبو ضرار قال حدثني عمار بن ربيعة قال مر بي الأشتر فأقبلت معه حتى رجع إلى المكان الذي كان به فقام في أصحابه فقال شدوا فدا لكم عمي و خالي شدة ترضون بها الله و تعرزون بها الدين إذا أنا حملت فاحملوا ثم نزل و ضرب وجه دابته و قال لصاحب رايته أقدم فتقدم بها ثم شد على القوم و شد معه أصحابه فضرب أهل الشام حتى انتهى بهم إلى معسكرهم فقاتلوا عند المعسكر قتالا شديدا و قتل صاحب رايتهم و أخذ علي ع لما رأى الظفر قد جاء من قبله يمده بالرجال .
و روى نصر عن رجاله قال لما بلغ القوم إلى ما بلغوا إليه قام علي ع خطيبا فحمد الله و أثنى عليه و قال
[ 210 ]
(103/3)

أيها الناس قد بلغ بكم الأمر و بعدوكم ما قد رأيتم و لم يبق منهم إلا آخر نفس و إن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها و قد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا منهم ما بلغنا و أنا غاد عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله . قال فبلغ ذلك معاوية فدعا عمرو بن العاص و قال يا عمرو إنما هي الليلة حتى يغدو علي علينا بالفيصل فما ترى . قال إن رجالك لا يقومون لرجاله و لست مثله هو يقاتلك على أمر و أنت تقاتله على غيره أنت تريد البقاء و هو يريد الفناء و أهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم و أهل الشام لا يخافون عليا إن ظفر بهم و لكن ألق إلى القوم أمرا إن قبلوه اختلفوا و إن ردوه اختلفوا ادعهم إلى كتاب الله حكما فيما بينك و بينهم فإنك بالغ به حاجتك في القوم و إني لم أزل أؤخر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه . فعرف معاوية ذلك و قال له صدقت .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر بن عمير الأنصاري قال و الله لكأني أسمع عليا يوم الهرير و ذلك بعد ما طحنت رحى مذحج فيما بينها و بين عك و لخم و جذام و الأشعريين بأمر عظيم تشيب منه النواصي حتى استقلت الشمس و قام قائم الظهر و علي ع يقول لأصحابه حتى متى نخلي بين هذين الحيين قد فنيا و أنتم وقوف تنظرون أ ما تخافون مقت الله ثم انفتل إلى القبلة و رفع
[ 211 ]
(103/4)

يديه إلى الله عز و جل و نادى يا الله يا رحمان يا رحيم يا واحد يا أحد يا صمد يا الله يا إله محمد اللهم إليك نقلت الأقدام و أفضت القلوب و رفعت الأيدي و مدت الأعناق و شخصت الأبصار و طلبت الحوائج اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا و كثرة عدونا و تشتت أهوائنا ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين سيروا على بركة الله ثم نادى لا إله إلا الله و الله أكبر كلمة التقوى . قال فلا و الذي بعث محمدا بالحق نبيا ما سمعنا رئيس قوم منذ خلق الله السموات و الأرض أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب إنه قتل فيما ذكر العادون زيادة على خمسمائة من أعلام العرب يخرج بسيفه منحنيا
فيقول معذرة إلى الله و إليكم من هذا لقد هممت أن أفلقه و لكن يحجزني عنه أني سمعت رسول الله ص يقول لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي و أنا أقاتل به دونه ص . قال فكنا نأخذه فنقومه ثم يتناوله من أيدينا فيقتحم به في عرض الصف فلا و الله ما ليث بأشد نكاية منه في عدوه ع . قال نصر فحدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال سمعت تميم بن حذيم يقول لما أصبحنا من ليلة الهرير نظرنا فإذا أشباه الرايات أمام أهل الشام في وسط الفيلق
[ 212 ]
حيال موقف علي و معاوية فلما أسفرنا إذا هي المصاحف قد ربطت في أطراف الرماح و هي عظام مصاحف العسكر و قد شدوا ثلاثة أرماح جميعا و ربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم يمسكه عشرة رهط . قال نصر و قال أبو جعفر و أبو الطفيل استقبلوا عليا بمائة مصحف و وضعوا في كل مجنبة مائتي مصحف فكان جميعها خمسمائة مصحف . قال أبو جعفر ثم قام الطفيل بن أدهم حيال علي ع و قام أبو شريح الجذامي حيال الميمنة و قام ورقاء بن المعمر حيال الميسرة ثم نادوا يا معشر العرب الله الله في النساء و البنات و الأبناء من الروم و الأتراك و أهل فارس غدا إذا فنيتم الله الله في دينكم هذا كتاب الله بيننا و بينكم .
(103/5)

فقال علي ع اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون فاحكم بيننا و بينهم إنك أنت الحكم الحق المبين فاختلف أصحاب علي ع في الرأي فطائفة قالت القتال و طائفة قالت المحاكمة إلى الكتاب و لا يحل لنا الحرب و قد دعينا إلى حكم الكتاب فعند ذلك بطلت الحرب و وضعت أوزارها .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال حدثنا أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال لما كان اليوم الأعظم قال أصحاب معاوية و الله لا نبرح اليوم العرصة حتى نموت أو يفتح لنا و قال أصحاب علي ع لا نبرح اليوم العرصة حتى نموت أو يفتح لنا فبادروا القتال غدوة في يوم من أيام الشعرى طويل شديد
[ 213 ]
الحر فتراموا حتى فنيت النبال و تطاعنوا حتى تقصفت الرماح ثم نزل القوم عن خيولهم و مشى بعضهم إلى بعض بالسيوف حتى كسرت جفونها و قام الفرسان في الركب ثم اضطربوا بالسيوف و بعمد الحديد فلم يسمع السامعون إلا تغمغم القوم و صليل الحديد في الهام و تكادم الأفواه و كسفت الشمس و ثار القتام و ضلت الألوية و الرايات و مرت مواقيت أربع صلوات ما يسجد فيهن لله إلا تكبيرا و نادت المشيخة في تلك الغمرات يا معشر العرب الله الله في الحرمات من النساء و البنات قال جابر فبكى أبو جعفر و هو يحدثنا بهذا الحديث . قال نصر و أقبل الأشتر على فرس كميت محذوف و قد وضع مغفره على قربوس السرج و هو ينادي اصبروا يا معشر المؤمنين فقد حمي الوطيس و رجعت الشمس من الكسوف و اشتد القتال و أخذت السباع بعضها بعضا فهم كما قال الشاعر
مضت و استأخر القرعاء عنها
و خلي بينهم إلا الوريع
(103/6)

قال يقول واحد لصاحبه في تلك الحال أي رجل هذا لو كانت له نية فيقول له صاحبه و أي نية أعظم من هذه ثكلتك أمك و هبلتك إن رجلا كما ترى قد سبح في الدم و ما أضجرته الحرب و قد غلت هام الكماة من الحر و بلغت القلوب الحناجر و هو كما تراه جزعا يقول هذه المقالة اللهم لا تبقنا بعد هذا . قلت لله أم قامت عن الأشتر لو أن إنسانا يقسم أن الله تعالى ما خلق في العرب
[ 214 ]
و لا في العجم أشجع منه إلا أستاذه ع لما خشيت عليه الإثم و لله در القائل و قد سئل عن الأشتر ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام و هزم موته أهل العراق . و بحق ما
قال فيه أمير المؤمنين ع كان الأشتر لي كما كنت لرسول الله ص قال نصر و روى الشعبي عن صعصعة قال و قد كان الأشعث بن قيس بدر منه قول ليلة الهرير نقله الناقلون إلى معاوية فاغتنمه و بنى عليه تدبيره و ذلك أن الأشعث خطب أصحابه من كندة تلك الليلة فقال الحمد لله أحمده و أستعينه و أومن به و أتوكل عليه و أستنصره و أستغفره و أستجيره و أستهديه و أستشيره و أستشهد به فإن من هداه الله فلا مضل له و من يضلل الله فلا هادي له و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله ص . ثم قال قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي و ما قد فني فيه من العرب فو الله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ فما رأيت مثل هذا اليوم قط ألا فليبلغ الشاهد الغائب إنا نحن إن تواقفنا غدا إنه لفناء العرب و ضيعة الحرمات أما و الله ما أقول هذه المقالة جزعا من الحرب و لكني رجل مسن أخاف على النساء و الذراري غدا إذا فنينا اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي و لأهل ديني فلم آل و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب و الرأي يخطئ و يصيب
[ 215 ]
(103/7)

و إذا قضى الله أمرا أمضاه على ما أحب العباد أو كرهوا أقول قولي هذا و أستغفر الله العظيم لي و لكم . قال الشعبي قال صعصعة فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث فقال أصاب و رب الكعبة لئن نحن التقينا غدا لتميلن على ذراري أهل الشام و نسائهم و لتميلن فارس على ذراري أهل العراق و نسائهم إنما يبصر هذا ذوو الأحلام و النهى ثم قال لأصحابه اربطوا المصاحف على أطراف القنا . فثار أهل الشام في سواد الليل ينادون عن قول معاوية و أمره يا أهل العراق من لذرارينا إن قتلتمونا و من لذراريكم إذا قتلناكم الله الله في البقية و أصبحوا و قد رفعوا المصاحف على رءوس الرماح و قد قلدوها الخيل و الناس على الرايات قد اشتهوا ما دعوا إليه و مصحف دمشق الأعظم يحمله عشرة رجال على رءوس الرماح و هم ينادون كتاب الله بيننا و بينكم . و أقبل أبو الأعور السلمي على برذون أبيض و قد وضع المصحف على رأسه ينادي يا أهل العراق كتاب الله بيننا و بينكم . قال فجاء عدي بن حاتم الطائي فقال يا أمير المؤمنين إنه لم يصب منا عصبة إلا و قد أصيب منهم مثلها و كل مقروح و لكنا أمثل بقية منهم و قد جزع القوم و ليس بعد الجزع إلا ما نحب فناجزهم . و قام الأشتر فقال يا أمير المؤمنين إن معاوية لا خلف له من رجاله و لكن
[ 216 ]
(103/8)

بحمد الله لك الخلف و لو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك و لا نصرك فاقرع الحديد بالحديد و استعن بالله الحميد . ثم قام عمرو بن الحمق فقال يا أمير المؤمنين إنا و الله ما أجبناك و لا نصرناك على الباطل و لا أجبنا إلا الله و لا طلبنا إلا الحق و لو دعانا غيرك إلى ما دعوتنا إليه لاستشرى فيه اللجاج و طالت فيه النجوى و قد بلغ الحق مقطعه و ليس لنا معك رأي . فقام الأشعث بن قيس مغضبا فقال يا أمير المؤمنين إنا لك اليوم على ما كنا عليه أمس و ليس آخر أمرنا كأوله و ما من القوم أحد أحنى على أهل العراق و لا أوتر لأهل الشام مني فأجب القوم إلى كتاب الله عز و جل فإنك أحق به منهم و قد أحب الناس البقاء و كرهوا القتال . فقال علي ع هذا أمر ينظر فيه . فتنادى الناس من كل جانب الموادعة .
فقال علي ع أيها الناس إني أحق من أجاب إلى كتاب الله و لكن معاوية و عمرو بن العاص و ابن أبي معيط و ابن أبي سرح و ابن مسلمة ليسوا بأصحاب دين و لا قرآن إني أعرف بهم منكم صحبتهم صغارا و رجالا فكانوا شر صغار و شر رجال ويحكم إنها كلمة حق يراد بها باطل إنهم ما رفعوها أنهم يعرفونها و يعملون بها و لكنها الخديعة و الوهن و المكيدة أعيروني سواعدكم و جماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه و لم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا . فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد شاكي السلاح سيوفهم على
[ 217 ]
(103/9)

عواتقهم و قد اسودت جباههم من السجود يتقدمهم مسعر بن فدكي و زيد بن حصين و عصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذ دعيت إليه و إلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان فو الله لنفعلنها إن لم تجبهم فقال لهم ويحكم أنا أول من دعا إلى كتاب الله و أول من أجاب إليه و ليس يحل لي و لا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله فلا أقبله إني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم و نقضوا عهده و نبذوا كتابه و لكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم و أنهم ليس العمل بالقرآن يريدون قالوا فابعث إلى الأشتر ليأتينك و قد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير أشرف على عسكر معاوية ليدخله . قال نصر فحدثني فضيل بن خديج عن رجل من النخع قال سأل مصعب إبراهيم بن الأشتر عن الحال كيف كانت فقال كنت عند علي ع حين بعث إلى الأشتر ليأتيه و قد كان الأشتر أشرف على معسكر معاوية ليدخله فأرسل إليه علي ع يزيد بن هانئ أن ائتني فأتاه فأبلغه فقال الأشتر ائته فقل له ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي
[ 218 ]
(103/10)

إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني فرجع يزيد بن هانئ إلى علي ع فأخبره فما هو إلا أن انتهى إلينا حتى ارتفع الرهج و علت الأصوات من قبل الأشتر و ظهرت دلائل الفتح و النصر لأهل العراق و دلائل الخذلان و الإدبار على أهل الشام فقال القوم لعلي و الله ما نراك أمرته إلا بالقتال قال أ رأيتموني ساررت رسولي إليه أ ليس إنما كلمته على رءوسكم علانية و أنتم تسمعون قالوا فابعث إليه فليأتك و إلا فو الله اعتزلناك فقال ويحك يا يزيد قل له أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت فأتاه فأخبره فقال الأشتر أ برفع هذه المصاحف قال نعم قال أما و الله لقد ظننت أنها حين رفعت ستوقع خلافا و فرقة إنها مشورة ابن النابغة ثم قال ليزيد بن هانئ ويحك أ لا ترى إلى الفتح أ لا ترى إلى ما يلقون أ لا ترى الذي يصنع الله لنا أ ينبغي أن ندع هذا و ننصرف عنه فقال له يزيد أ تحب أنك ظفرت هاهنا و أن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه و يسلم إلى عدوه قال سبحان الله لا و الله لا أحب ذلك قال فإنهم قد قالوا له و حلفوا عليه لترسلن إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا عثمان أو لنسلمنك إلى عدوك . فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم فصاح يا أهل الذل و الوهن أ حين علوتم القوم و ظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها و قد و الله تركوا ما أمر الله به فيها و تركوا سنة من أنزلت عليه فلا تجيبوهم أمهلوني فواقا فإني
[ 219 ]
(103/11)

قد أحسست بالفتح قالوا لا نمهلك قال فأمهلوني عدوة الفرس فإني قد طمعت في النصر قالوا إذن ندخل معك في خطيئتك . قال فحدثوني عنكم و قد قتل أماثلكم و بقي أراذلكم متى كنتم محقين أ حين كنتم تقتلون أهل الشام فأنتم الآن حين أمسكتم عن قتالهم مبطلون أم أنتم الآن في إمساككم عن القتال محقون فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم و أنهم خير منكم في النار قالوا دعنا منك يا أشتر قاتلناهم في الله و ندع قتالهم في الله إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا فقال خدعتم و الله فانخدعتم و دعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم يا أصحاب الجباه السود كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا و شوقا إلى لقاء الله فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت ألا فقبحا يا أشباه النيب الجلالة ما أنتم براءين بعدها عزا أبدا فابعدوا كما بعد القوم الظالمون . فسبوه و سبهم و ضربوا بسياطهم وجه دابته و ضرب بسوطه وجوه دوابهم و صاح بهم علي ع فكفوا و قال الأشتر يا أمير المؤمنين احمل الصف على الصف تصرع القوم فتصايحوا أن أمير المؤمنين قد قبل الحكومة و رضي بحكم القرآن فقال الأشتر إن كان أمير المؤمنين قد قبل و رضي فقد رضيت بما رضي به أمير المؤمنين فأقبل الناس يقولون قد رضي أمير المؤمنين قد قبل أمير المؤمنين و هو ساكت لا يبض بكلمة مطرق إلى الأرض . ثم قال فسكت الناس كلهم
فقال أيها الناس إن أمري لم يزل معكم على ما أحب إلى أن أخذت منكم الحرب و قد و الله أخذت منكم و تركت و أخذت من عدوكم فلم تترك و إنها فيهم أنكى و أنهك ألا إني كنت أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم
[ 220 ]
(103/12)

مأمورا و كنت ناهيا فأصبحت منهيا و قد أحببتم البقاء و ليس لي أن أحملكم على ما تكرهون ثم قعد . قال نصر ثم تكلم رؤساء القبائل فكل قال ما يراه و يهواه إما من الحرب أو من السلم فقام كردوس بن هانئ البكري فقال أيها الناس إنا و الله ما تولينا معاوية منذ تبرأنا منه و لا تبرأنا من علي منذ توليناه و إن قتلانا لشهداء و إن أحياءنا لأبرار و إن عليا لعلى بينة من ربه و ما أحدث إلا الإنصاف فمن سلم له نجا و من خالفه هلك ثم قام شقيق بن ثور البكري فقال أيها الناس إنا دعونا أهل الشام إلى كتاب الله فردوه علينا فقاتلناهم عليه و إنهم قد دعونا اليوم إليه فإن رددناه عليهم حل لهم منا ما حل لنا منهم و لسنا نخاف أن يحيف الله علينا و رسوله ألا إن عليا ليس بالراجع الناكس و لا الشاك الواقف و هو اليوم على ما كان عليه أمس و قد أكلتنا هذه الحرب و لا نرى البقاء إلا في الموادعة . قال نصر ثم إن أهل الشام لما أبطأ عنهم علم حال أهل العراق هل أجابوا إلى الموادعة أم لا جزعوا فقالوا يا معاوية ما نرى أهل العراق أجابوا إلى ما دعوناهم إليه فأعدها جذعة فإنك قد غمرت بدعائك القوم و أطمعتهم فيك . فدعا معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص فأمره أن يكلم أهل العراق و يستعلم له ما عندهم فأقبل حتى إذا كان بين الصفين نادى يا أهل العراق أنا عبد الله بن
[ 221 ]
(103/13)

عمرو بن العاص إنه قد كانت بيننا و بينكم أمور للدين أو الدنيا فإن تكن للدين فقد و الله أعذرنا و أعذرتم و إن تكن للدنيا فقد و الله أسرفنا و أسرفتم و قد دعوناكم إلى أمر لو دعوتمونا إليه لأجبناكم فإن يجمعنا و إياكم الرضا فذاك من الله فاغتنموا هذه الفرصة عسى أن يعيش فيها المحترف و ينسى فيها القتيل فإن بقاء المهلك بعد الهالك قليل . فأجابه سعد بن قيس الهمداني فقال أما بعد يا أهل الشام إنه قد كانت بيننا و بينكم أمور حامينا فيها على الدين و الدنيا و سميتموها غدرا و سرفا و قد دعوتمونا اليوم إلى ما قاتلناكم عليه أمس و لم يكن ليرجع أهل العراق إلى عراقهم و أهل الشام إلى شامهم بأمر أجمل من أن يحكم فيه بما أنزل الله سبحانه فالأمر في أيدينا دونكم و إلا فنحن نحن و أنتم أنتم . فقام الناس إلى علي ع فقالوا له أجب القوم إلى المحاكمة قال و نادى إنسان من أهل الشام في جوف الليل بشعر سمعه الناس و هو
رءوس العراق أجيبوا الدعاء
فقد بلغت غاية الشده
و قد أودت الحرب بالعالمين
و أهل الحفائظ و النجده
فلسنا و لستم من المشركين
و لا المجمعين على الرده
و لكن أناس لقوا مثلهم
لنا عدة و لكم عده
[ 222 ]
فقاتل كل على وجهه
يقحمه الجد و الحده
فإن تقبلوها ففيها البقاء
و أمن الفريقين و البلده
و إن تدفعوها ففيها الفناء
و كل بلاء إلى مده
فحتى متى مخض هذا السقاء
و لا بد أن تخرج الزبده
ثلاثة رهط هم أهلها
و إن يسكتوا تخمد الوقده
سعيد بن قيس و كبش العراق
و ذاك المسود من كنده
(103/14)

قال فأما المسود من كندة و هو الأشعث فإنه لم يرض بالسكوت بل كان من أعظم الناس قولا في إطفاء الحرب و الركون إلى الموادعة و أما كبش العراق و هو الأشتر فلم يكن يرى إلا الحرب و لكنه سكت على مضض و أما سعيد بن قيس فكان تارة هكذا و تارة هكذا . و ذكر ابن ديزيل الهمداني في كتاب صفين قال خرج عبد الرحمن بن خالد بن الوليد و معه لواء معاوية فارتجز فخرج إليه جارية بن قدامة السعدي فارتجز أيضا مجيبا له ثم اطعنا فلم يصنعا شيئا و انصرف كل واحد منهما عن صاحبه فقال عمرو بن العاص لعبد الرحمن اقحم يا ابن سيف الله فتقدم عبد الرحمن بلوائه و تقدم أصحابه فأقبل علي ع على الأشتر فقال له قد بلغ لواء معاوية حيث
[ 223 ]
ترى فدونك القوم فأخذ الأشتر لواء علي ع و قال
إني أنا الأشتر معروف الشتر
إني أنا الأفعى العراقي الذكر
لست ربيعيا و لست من مضر
لكنني من مذحج الشم الغرر
فضارب القوم حتى ردهم فانتدب له همام بن قبيصة الطائي و كان مع معاوية فشد عليه في مذحج فانتصر عدي بن حاتم الطائي للأشتر فحمل عليه في طي ء فاشتد القتال جدا
فدعا علي ببغلة رسول الله ص فركبها ثم تعصب بعمامة رسول الله و نادى أيها الناس من يشري نفسه لله إن هذا يوم له ما بعده فانتدب معه ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفا فتقدمهم علي ع و قال
دبوا دبيب النمل لا تفوتوا
و أصبحوا أمركم أو بيتوا
حتى تنالوا الثأر أو تموتوا
و حمل و حمل الناس كلهم حملة واحدة فلم يبق لأهل الشام صف إلا أزالوه حتى أفضوا إلى معاوية فدعا معاوية بفرسه ليفر عليه . و كان معاوية بعد ذلك يحدث فيقول لما وضعت رجلي في الركاب ذكرت قول عمرو بن الإطنابة
أبت لي عفتي و أبى بلائي
و أخذي الحمد بالثمن الربيح
[ 224 ]
و إقدامي على المكروه نفسي
و ضربي هامة البطل المشيح
و قولي كلما جشأت و جاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
(103/15)

فأخرجت رجلي من الركاب و أقمت و نظرت إلى عمرو فقلت له اليوم صبر و غدا فخر فقال صدقت . قال إبراهيم بن ديزيل روى عبد الله بن أبي بكر عن عبد الرحمن بن حاطب عن معاوية قال أخذت بمعرفة فرسي و وضعت رجلي في الركاب للهرب حتى ذكرت شعر ابن الإطنابة فعدت إلى مقعدي فأصبت خير الدنيا و إني لراج أن أصيب خير الآخرة . قال إبراهيم بن ديزيل فكان ذلك يوم الهرير ثم رفعت المصاحف بعده . و روى إبراهيم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن ربيعة بن لقيط قال شهدنا صفين فمطرت السماء علينا دما عبيطا . و قال و في حديث الليث بن سعد أن كانوا ليأخذونه بالصحاف و الآنية و في حديث ابن لهيعة حتى إن الصحاف و الآنية لتمتلئ و نهريقها . قال إبراهيم و روى عبد الرحمن بن زياد عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عمن حدثه ممن حضر صفين أنهم مطروا دما عبيطا فتلقاه الناس بالقصاع و الآنية و ذلك في يوم الهرير و فزع أهل الشام و هموا أن يتفرقوا فقام عمرو بن العاص فيهم فقال أيها الناس إنما هذه آية من آيات الله فأصلح امرؤ ما بينه و بين الله ثم لا عليه أن ينتطح هذان الجبلان فأخذوا في القتال
[ 225 ]
(103/16)

قال إبراهيم و روى أبو عبد الله المكي قال حدثنا سفيان بن عاصم بن كليب الحارثي عن أبيه قال أخبرني ابن عباس قال لقد حدثني معاوية أنه كان يومئذ قد قرب إليه فرسا له أنثى بعيدة البطن من الأرض ليهرب عليها حتى أتاه آت من أهل العراق فقال له إني تركت أصحاب علي في مثل ليلة الصدر من منى فأقمت قال فقلنا له فأخبرنا من هو ذلك الرجل فأبى و قال لا أخبركم من هو . قال نصر و إبراهيم أيضا و كتب معاوية إلى علي ع أما بعد فإن هذا الأمر قد طال بيننا و بينك و كل واحد منا يرى أنه على الحق فيما يطلب من صاحبه و لن يعطي واحد منا الطاعة للآخر و قد قتل فيما بيننا بشر كثير و أنا أتخوف أن يكون ما بقي أشد مما مضى و إنا سوف نسأل عن ذلك الموطن و لا يحاسب به غيري و غيرك و قد دعوتك إلى أمر لنا و لك فيه حياة و عذر و براءة و صلاح للأمة و حقن للدماء و ألفة للدين و ذهاب للضغائن و الفتن أن نحكم بيني و بينكم حكمين مرضيين أحدهما من أصحابي و الآخر من أصحابك فيحكمان بيننا بما أنزل الله فهو خير لي و لك و أقطع لهذه الفتن فاتق الله فيما دعيت إليه و ارض بحكم القرآن إن كنت من أهله و السلام .
فكتب إليه علي ع من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فإن أفضل ما شغل به المرء نفسه اتباع ما حسن به فعله و استوجب فضله و سلم من عيبه
[ 226 ]
(103/17)

و إن البغي و الزور يزريان بالمرء في دينه و دنياه فاحذر الدنيا فإنه لا فرح في شي ء وصلت إليه منها و لقد علمت أنك غير مدرك ما قضى فواته و قد رام قوم أمرا بغير الحق و تأولوه على الله جل و عز فأكذبهم و متعهم قليلا ثم اضطرهم إلى عذاب غليظ فاحذر يوما يغتبط فيه من حمد عاقبة عمله و يندم فيه من أمكن الشيطان من قياده و لم يحاده و غرته الدنيا و اطمأن إليها ثم إنك قد دعوتني إلى حكم القرآن و لقد علمت أنك لست من أهل القرآن و لا حكمه تريد و الله المستعان فقد أجبنا القرآن إلى حكمه و لسنا إياك أجبنا و من لم يرض بحكم القرآن فقد ضل ضلالا بعيدا فكتب معاوية إلى علي ع أما بعد عافانا الله و إياك فقد آن لك أن تجيب إلى ما فيه صلاحنا و ألفة بيننا و قد فعلت الذي فعلت و أنا أعرف حقي و لكني اشتريت بالعفو صلاح الأمة و لم أكثر فرحا بشي ء جاء و لا ذهب و إنما أدخلني في هذا الأمر القيام بالحق فيما بين الباغي و المبغي عليه و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فدعوت إلى كتاب الله فيما بيننا و بينك فإنه لا يجمعنا و إياك إلا هو نحيي ما أحيا القرآن و نميت ما أمات القرآن و السلام .
قال نصر فكتب علي ع إلى عمرو بن العاص يعظه و يرشده
[ 227 ]
أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها و لن يصيب صاحبها منها شيئا إلا فتحت له حرصا يزيده فيها رغبة و لن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغ و من وراء ذلك فراق ما جمع و السعيد من وعظ بغيره فلا تحبط أبا عبد الله أجرك و لا تجار معاوية في باطله و السلام فكتب إليه عمرو الجواب أما بعد أقول فالذي فيه صلاحنا و ألفتنا الإنابة إلى الحق و قد جعلنا القرآن بيننا حكما و أجبنا إليه فصبر الرجل منا نفسه على ما حكم عليه القرآن و عذره الناس بعد المحاجزة و السلام .
(103/18)

فكتب إليه علي ع أما بعد فإن الذي أعجبك من الدنيا مما نازعتك إليه نفسك و وثقت به منها لمنقلب عنك و مفارق لك فلا تطمئن إلى الدنيا فإنها غرارة و لو اعتبرت بما مضى لحفظت ما بقي و انتفعت منها بما وعظت به و السلام فأجابه عمرو أما بعد فقد أنصف من جعل القرآن إماما و دعا الناس إلى أحكامه فاصبر أبا حسن فإنا غير منيليك إلا ما أنالك القرآن و السلام . قال نصر و جاء الأشعث إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين ما أرى الناس إلا قد رضوا و سرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن
[ 228 ]
(103/19)

فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد و نظرت ما الذي يسأل قال فأته إن شئت فأتاه فسأله يا معاوية لأي شي ء رفعتم هذه المصاحف قال لنرجع نحن و أنتم إلى ما أمر الله به فيها فابعثوا رجلا منكم ترضون به و نبعث منا رجلا و نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله و لا يعدوانه ثم نتبع ما اتفقا عليه فقال الأشعث هذا هو الحق . و انصرف إلى علي ع فأخبره فبعث علي ع قراء من أهل العراق و بعث معاوية قراء من أهل الشام فاجتمعوا بين الصفين و معهم المصحف فنظروا فيه و تدارسوا و اجتمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن و يميتوا ما أمات القرآن و رجع كل فريق إلى صاحبه فقال أهل الشام إنا قد رضينا و اخترنا عمرو بن العاص و قال الأشعث و القراء الذين صاروا خوارج فيما بعد قد رضينا نحن و اخترنا أبا موسى الأشعري فقال لهم علي ع فإني لا أرضى بأبي موسى و لا أرى أن أوليه فقال الأشعث و زيد بن حصين و مسعر بن فدكي في عصابة من القراء إنا لا نرضى إلا به فإنه قد كان حذرنا ما وقعنا فيه فقال علي ع فإنه ليس لي برضا و قد فارقني و خذل الناس عني و هرب مني حتى أمنته بعد أشهر و لكن هذا ابن عباس أوليه ذلك قالوا و الله ما نبالي أ كنت أنت أو ابن عباس و لا نريد إلا رجلا هو منك و من معاوية سواء ليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر قال علي ع فإني أجعل الأشتر فقال الأشعث و هل سعر الأرض علينا إلا الأشتر و هل نحن إلا في حكم الأشتر قال علي ع و ما حكمه قال حكمه أن يضرب بعضنا بعضا بالسيف حتى يكون ما أردت و ما أراد .
[ 229 ]
(103/20)

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر محمد بن علي قال لما أراد الناس عليا أن يضع الحكمين قال لهم إن معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحدا هو أوثق برأيه و نظره من عمرو بن العاص و إنه لا يصلح للقرشي إلا مثله فعليكم بعبد الله بن العباس فارموه به فإن عمرا لا يعقد عقدة إلا حلها عبد الله و لا يحل عقدة إلا عقدها و لا يبرم أمرا إلا نقضه و لا ينقض أمرا إلا أبرمه فقال الأشعث لا و الله لا يحكم فينا مضريان حتى تقوم الساعة و لكن اجعل رجلا من أهل اليمن إذ جعلوا رجلا من مضر فقال علي ع إني أخاف أن يخدع يمنيكم فإن عمرا ليس من الله في شي ء إذا كان له في أمر هوى فقال الأشعث و الله لأن يحكما ببعض ما نكره و أحدهما من أهل اليمن أحب إلينا من أن يكون بعض ما نحب في حكمهما و هما مضريان . قال و ذكر الشعبي أيضا مثل ذلك . قال نصر فقال علي ع قد أبيتم إلا أبا موسى قالوا نعم قال فاصنعوا ما شئتم فبعثوا إلى أبي موسى و هو بأرض من أرض الشام يقال لها عرض قد اعتزل القتال فأتاه مولى له فقال إن الناس قد اصطلحوا فقال الحمد لله رب العالمين قال و قد جعلوك حكما فقال إنا لله و إنا إليه راجعون . فجاء أبو موسى حتى دخل عسكر علي ع و جاء الأشتر عليا فقال يا أمير المؤمنين ألزني بعمرو بن العاص فو الذي لا إله غيره لئن ملأت عيني منه لأقتلنه
[ 230 ]
(103/21)

و جاء الأحنف بن قيس عليا فقال يا أمير المؤمنين إنك قد رميت بحجر الأرض و من حارب الله و رسوله أنف الإسلام و إني قد عجمت هذا الرجل يعني أبا موسى و حلبت أشطره فوجدته كليل الشفرة قريب القعر و إنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يكون في أكفهم و يتباعد منهم حتى يكون بمنزلة النجم منهم فإن شئت أن تجعلني حكما فاجعلني و إن شئت أن تجعلني ثانيا أو ثالثا فإن عمرا لا يعقد عقدة إلا حللتها و لا يحل عقدة إلا عقدت لك أشد منها . فعرض علي ع ذلك على الناس فأبوه و قالوا لا يكون إلا أبا موسى . قال نصر مال الأحنف إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إني خيرتك يوم الجمل أن آتيك فيمن أطاعني أو أكف عنك بني سعد فقلت كف قومك فكفى بكفك نصيرا فأقمت بأمرك و إن عبد الله بن قيس رجل قد حلبت أشطره فوجدته قريب القعر كليل المدية و هو رجل يمان و قومه مع معاوية و قد رميت بحجر الأرض و بمن حارب الله و رسوله و إن صاحب القوم من ينأى حتى يكون مع النجم و يدنو حتى يكون في أكفهم فابعثني فو الله لا يحل عنك عقدة إلا عقدت لك أشد منها فإن قلت إني لست من أصحاب رسول الله فابعث رجلا من أصحاب رسول الله و ابعثني معه .
[ 231 ]
فقال علي ع إن القوم أتوني بعبد الله بن قيس مبرنسا فقالوا ابعث هذا رضينا به و الله بالغ أمره . قال نصر و روى أن ابن الكواء قام إلى علي ع فقال هذا عبد الله بن قيس وافد أهل اليمن إلى رسول الله ص و صاحب مقاسم أبي بكر و عامل عمر و قد رضي به القوم و عرضنا عليهم ابن عباس فزعموا أنه قريب القرابة منك ظنون في أمرك . فبلغ ذلك أهل الشام فبعث أيمن بن خزيم الأسدي و كان معتزلا لمعاوية بهذه الأبيات و كان هواه أن يكون الأمر لأهل العراق
لو كان للقوم رأي يعصمون به
من الضلال رموكم بابن عباس
لله در أبيه أيما رجل
ما مثله لفصال الخطب في الناس
لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن
لا يهتدي ضرب أخماس لأسداس
إن يخل عمرو به يقذفه في لجج
(103/22)

يهوي به النجم تيسا بين أتياس
أبلغ لديك عليا غير عاتبه
قول امرئ لا يرى بالحق من باس
ما الأشعري بمأمون أبا حسن
فاعلم هديت و ليس العجز كالرأس
فاصدم بصاحبك الأدنى زعيمهم
إن ابن عمك عباس هو الآسي
فلما بلغ الناس هذا الشعر طارت أهواء قوم من أولياء علي ع و شيعته إلى ابن عباس و أبت القراء إلا أبا موسى .
[ 232 ]
قال نصر و كان أيمن بن خزيم رجلا عابدا مجتهدا و قد كان معاوية جعل له فلسطين على أن يتابعه و يشايعه على قتال علي ع فقال أيمن و بعث بها إليه
و لست مقاتلا رجلا يصلي
على سلطان آخر من قريش
له سلطانه و علي إثمي
معاذ الله من سفه و طيش
أ أقتل مسلما في غير جرم
فليس بنافعي ما عشت عيشي
قال نصر فلما رضي أهل الشام بعمرو و أهل العراق بأبي موسى أخذوا في سطر كتاب الموادعة و كانت صورته هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين و معاوية بن أبي سفيان فقال معاوية بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته و قال عمرو بل نكتب اسمه و اسم أبيه إنما هو أميركم فأما أميرنا فلا فلما أعيد إليه الكتاب أمر بمحوه فقال الأحنف لا تمح اسم أمير المؤمنين عنك فإني أتخوف إن محوتها ألا ترجع إليك أبدا فلا تمحها
فقال علي ع إن هذا اليوم كيوم الحديبية حين كتب الكتاب عن رسول الله ص هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو فقال سهيل لو أعلم أنك رسول الله لم أقاتلك و لم أخالفك إني إذا لظالم لك إن منعتك أن تطوف ببيت الله الحرام و أنت رسوله و لكن اكتب من محمد بن عبد الله فقال لي رسول الله ص يا علي إني لرسول الله و أنا محمد بن عبد الله و لن يمحو عني الرسالة كتابي لهم من محمد بن عبد الله فاكتبها و امح ما أراد محوه أما إن لك مثلها ستعطيها و أنت مضطهد
قال نصر و قد روي أن عمرو بن العاص عاد بالكتاب إلى علي ع فطلب منه أن يمحو اسمه من إمرة المؤمنين فقص عليه و على من حضر قصة صلح الحديبية
[ 233 ]
(103/23)

قال إن ذلك الكتاب أنا كتبته بيننا و بين المشركين و اليوم أكتبه إلى أبنائهم كما كان رسول الله ص كتبه إلى آبائهم شبها و مثلا فقال عمرو سبحان الله أ تشبهنا بالكفار و نحن مسلمون فقال علي ع يا ابن النابغة و متى لم تكن للكافرين وليا و للمسلمين عدوا فقام عمرو و قال و الله لا يجمع بيني و بينك مجلس بعد اليوم فقال علي أما و الله إني لأرجو أن يظهر الله عليك و على أصحابك . و جاءت عصابة قد وضعت سيوفها على عواتقها فقالوا يا أمير المؤمنين مرنا بما شئت فقال لهم سهل بن حنيف أيها الناس اتهموا رأيكم فلقد شهدنا صلح رسول الله ص يوم الحديبية و لو نرى قتالا لقاتلنا . و زاد إبراهيم بن ديزيل لقد رأيتني يوم أبي جندل يعني الحديبية و لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله ص لرددته ثم لم نر في ذلك الصلح إلا خيرا . قال نصر و قد روى أبو إسحاق الشيباني قال قرأت كتاب الصلح عند سعيد بن أبي بردة في صحيفة صفراء عليها خاتمان خاتم من أسفلها و خاتم من أعلاها على خاتم علي ع محمد رسول الله و على خاتم معاوية محمد رسول الله و قيل لعلي ع حين أراد أن يكتب الكتاب بينه و بين معاوية و أهل الشام أ تقر أنهم مؤمنون مسلمون فقال علي ع ما أقر لمعاوية و لا لأصحابه أنهم مؤمنون و لا مسلمون و لكن يكتب معاوية ما شاء بما شاء و يقر بما شاء لنفسه و لأصحابه و يسمي نفسه بما شاء و أصحابه فكتبوا هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان قاضى علي بن أبي طالب
[ 234 ]
(103/24)

على أهل العراق و من كان معه من شيعته من المؤمنين و المسلمين و قاضى معاوية بن أبي سفيان على أهل الشام و من كان معه من شيعته من المؤمنين و المسلمين إننا ننزل عند حكم الله تعالى و كتابه و لا يجمع بيننا إلا إياه و إن كتاب الله سبحانه و تعالى بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا القرآن و نميت ما أمات القرآن فإن وجد الحكمان ذلك في كتاب الله اتبعاه و إن لم يجداه أخذا بالسنة العادلة غير المفرقة و الحكمان عبد الله بن قيس و عمرو بن العاص و قد أخذ الحكمان من علي و معاوية و من الجندين أنهما آمنان على أنفسهما و أموالهما و أهلهما و الأمة لهما أنصار و على الذي يقضيان عليه و على المؤمنين و المسلمين من الطائفتين عهد الله أن يعملوا بما يقضيان عليه مما وافق الكتاب و السنة و إن الأمن و الموادعة و وضع السلاح متفق عليه بين الطائفتين إلى أن يقع الحكم و على كل واحد من الحكمين عهد الله ليحكمن بين الأمة بالحق لا بالهوى و أجل الموادعة سنة كاملة فإن أحب الحكمان أن يعجلا الحكم عجلاه و إن توفي أحدهما فلأمير شيعته أن يختار مكانه رجلا لا يألو الحق و العدل و إن توفي أحد الأميرين كان نصب غيره إلى أصحابه ممن يرضون أمره و يحمدون طريقته اللهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة و أراد فيها إلحادا و ظلما . قال نصر هذه رواية محمد بن علي بن الحسين و الشعبي و روى جابر عن زيد بن الحسن بن الحسن زيادات على هذه النسخة هذا ما تقاضى عليه ابن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان و شيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله و سنة رسوله قضية علي على أهل العراق و من كان من شيعته من شاهد أو غائب و قضية معاوية على أهل الشام و من كان من شيعته من شاهد أو غائب إننا رضينا أن ننزل عند حكم القرآن فيما حكم و أن نقف عند أمره فيما أمر فإنه لا يجمع بيننا إلا ذلك و إنا جعلنا كتاب الله سبحانه حكما بيننا فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى
(103/25)

[ 235 ]
خاتمته نحيي ما أحيا القرآن و نميت ما أماته على ذلك تقاضينا و به تراضينا و إن عليا و شيعته رضوا أن يبعثوا عبد الله بن قيس ناظرا و محاكما و رضي معاوية و شيعته أن يبعثوا عمرو بن العاص ناظرا و محاكما على أنهم أخذوا عليهما عهد الله و ميثاقه و أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه ليتخذان الكتاب إماما فيما بعثا إليه لا يعدوانه إلى غيره ما وجداه فيه مسطورا و ما لم يجداه مسمى في الكتاب رداه إلى سنة رسول الله ص الجامعة لا يتعمدان لها خلافا و لا يتبعان هوى و لا يدخلان في شبهة و قد أخذ عبد الله بن قيس و عمرو بن العاص على علي و معاوية عهد الله و ميثاقه بالرضا بما حكما به من كتاب الله و سنة نبيه و ليس لهما أن ينقضا ذلك و لا يخالفاه إلى غيره و أنهما آمنان في حكمهما على دمائهما و أموالهما و أهلهما ما لم يعدوا الحق رضي بذلك راض أو أنكره منكر و أن الأمة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة فأمير شيعته و أصحابه يختارون مكانه رجلا لا يألون عن أهل المعدلة و الإقساط على ما كان عليه صاحبه من العهد و الميثاق و الحكم بكتاب الله و سنة رسوله و له مثل شرط صاحبه و إن مات أحد الأميرين قبل القضاء فلشيعته أن يولوا مكانه رجلا يرضون عدله و قد وقعت هذه القضية و معها الأمن و التفاوض و وضع السلاح و السلام و الموادعة و على الحكمين عهد الله و ميثاقه ألا يألوا اجتهادا و لا يتعمدا جورا و لا يدخلا في شبهة و لا يعدوا حكم الكتاب فإن لم يقبلا برئت الأمة من حكمهما و لا عهد لهما و لا ذمة و قد وجبت القضية على ما قد سمي في هذا الكتاب من مواقع الشروط على الحكمين و الأميرين و الفريقين و الله أقرب شهيدا و أدنى حفيظا و الناس آمنون على أنفسهم و أهلهم و أموالهم إلى انقضاء مدة الأجل و السلاح موضوع و السبل مخلاة و الشاهد و الغائب من الفريقين سواء في الأمن و للحكمين أن ينزلا منزلا عدلا
(103/26)

بين أهل العراق و الشام لا يحضرهما فيه إلا من أحبا عن ملإ منهما و تراض
[ 236 ]
و إن المسلمين قد أجلوا هذين القاضيين إلى انسلاخ شهر رمضان فإن رأيا تعجيل الحكومة فيما وجها له عجلاها و إن أرادا تأخيرها بعد شهر رمضان إلى انقضاء الموسم فذلك إليهما و إن هما لم يحكما بكتاب الله و سنة نبيه إلى انقضاء الموسم فالمسلمون على أمرهم الأول في الحرب و لا شرط بين الفريقين و على الأمة عهد الله و ميثاقه على التمام و الوفاء بما في هذا الكتاب و هم يد على من أراد فيه إلحادا و ظلما أو حاول له نقضا و شهد فيه من أصحاب علي عشرة و من أصحاب معاوية عشرة و تاريخ كتابته لليلة بقيت من صفر سنة سبع و ثلاثين . قال نصر و حدثنا عمرو بن سعيد قال حدثني أبو جناب عن ربيعة الجرمي قال لما كتبت الصحيفة دعي لها الأشتر ليشهد مع الشهود عليه فقال لا صحبتني يميني و لا نفعني بعدها الشمال إن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح أو موادعة أ و لست على بينة من أمري و يقين من ضلالة عدوي أ و لستم قد رأيتم الظفر إن لم تجمعوا على الخور فقال له رجل من الناس و الله ما رأيت ظفرا و لا خورا هلم فأشهد على نفسك و أقرر بما كتب في هذه الصحيفة فإنه لا رغبة لك عن الناس فقال بلى و الله إن لي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا و في الآخرة للآخرة و لقد سفك الله بسيفي هذا دماء رجال ما أنت عندي بخير منهم و لا أحرم دما . قال نصر بن مزاحم الرجل هو الأشعث بن قيس قال فكأنما قصع على أنه الحميم ثم قال و لكني قد رضيت بما يرضى به أمير المؤمنين و دخلت فيما دخل فيه و خرجت مما خرج منه فإنه لا يدخل إلا في الهدى و الصواب .
[ 237 ]
(103/27)

قال نصر فحدثنا عمر بن سعد عن أبي جناب الكلبي عن إسماعيل بن شفيع عن سفيان بن سلمة قال فلما تم الكتاب و شهدت فيه الشهود و تراضى الناس خرج الأشعث و معه ناس بنسخة الكتاب يقرؤها على الناس و يعرضها عليهم فمر به على صفوف من أهل الشام و هم على راياتهم فأسمعهم إياه فرضوا به ثم مر به على صفوف من أهل العراق و هم على راياتهم فأسمعهم إياه فرضوا به حتى مر برايات عنزة و كان مع علي ع من عنزة بصفين أربعة آلاف مجفف فلما مر بهم الأشعث يقرؤه عليهم قال فتيان منهم لا حكم إلا لله ثم حملا على أهل الشام بسيوفهما فقاتلا حتى قتلا على باب رواق معاوية فهما أول من حكم و اسماهما جعد و معدان ثم مر بهما على مراد فقال صالح بن شقيق و كان من رءوسهم
ما لعلي في الدماء قد حكم
لو قاتل الأحزاب يوما ما ظلم
لا حكم إلا لله و لو كره المشركون ثم مر على رايات بني راسب فقرأها عليهم فقال رجل منهم لا حكم إلا لله لا نرضى و لا نحكم الرجال في دين الله ثم مر على رايات تميم فقرأها عليهم فقال رجل منهم لا حكم إلا لله يقضي بالحق و هو خير الفاصلين فقال رجل منهم لآخر أما هذا فقد طعن طعنة نافذة و خرج عروة بن أدية أخو مرداس بن أدية التميمي فقال أ تحكمون الرجال في أمر الله لا حكم إلا لله فأين قتلانا يا أشعث ثم شد بسيفه ليضرب به الأشعث فأخطأه و ضرب عجز دابته ضربة خفيفة فصاح به الناس أن أملك يدك فكف و رجع الأشعث إلى قومه فمشى الأحنف إليه و معقل بن قيس و مسعر بن فدكي و رجال من بني تميم فتنصلوا و اعتذروا فقبل منهم ذلك و انطلق إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إني
[ 238 ]
(103/28)

عرضت الحكومة على صفوف أهل الشام و أهل العراق فقالوا جميعا رضينا حتى مررت برايات بني راسب و نبذ من الناس سواهم فقالوا لا نرضى لا حكم إلا لله فمل بأهل العراق و أهل الشام عليهم حتى نقتلهم فقال علي ع هل هي غير راية أو رايتين و نبذ من الناس قال لا قال فدعهم . قال نصر فظن علي ع أنهم قليلون لا يعبأ بهم فما راعه إلا نداء الناس من كل جهة و من كل ناحية لا حكم إلا لله الحكم لله يا علي لا لك لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله إن الله قد أمضى حكمه في معاوية و أصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا تحت حكمنا عليهم و قد كنا زللنا و أخطأنا حين رضينا بالحكمين و قد بان لنا زللنا و خطؤنا فرجعنا إلى الله و تبنا فارجع أنت يا علي كما رجعنا و تب إلى الله كما تبنا و إلا برئنا منك فقال علي ع ويحكم أ بعد الرضا و الميثاق و العهد نرجع أ ليس الله تعالى قد قال أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و قال وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اَللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا اَلْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً فأبى علي أن يرجع و أبت الخوارج إلا تضليل التحكيم و الطعن فيه فبرئت من علي ع و برئ علي ع منهم .
قال نصر و قام إلى علي ع محمد بن جريش فقال يا أمير المؤمنين أ ما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل فو الله إني لأخاف أن يورث ذلا فقال علي ع
[ 239 ]
أ بعد أن كتبناه ننقضه إن هذا لا يحل
(103/29)

قال نصر و حدثني عمر بن نمير بن وعلة عن أبي الوداك قال لما تداعى الناس إلى المصاحف و كتبت صحيفة الصلح و التحكيم قال علي ع إنما فعلت ما فعلت لما بدا فيكم من الخور و الفشل عن الحرب فجاءت إليه همدان كأنها ركن حصير فيهم سعيد بن قيس و ابنه عبد الرحمن غلام له ذؤابة فقال سعيد ها أنا ذا و قومي لا نرد أمرك فقل ما شئت نعمله فقال أما لو كان هذا قبل سطر الصحيفة لأزلتهم عن عسكرهم أو تنفرد سالفتي قبل ذلك و لكن انصرفوا راشدين فلعمري ما كنت لأعرض قبيلة واحدة للناس
قال نصر و روى الشعبي أن عليا ع قال يوم صفين حين أقر الناس بالصلح إن هؤلاء القوم لم يكونوا لينيبوا إلى الحق و لا ليجيبوا إلى كلمة سواء حتى يرموا بالمناسر تتبعها العساكر و حتى يرجموا بالكتائب تقفوها الجلائب
[ 240 ]
و حتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس و حتى يدعوا الخيول في نواحي أرضهم و بأحناء مساربهم و مسارحهم و حتى تشن عليهم الغارات من كل فج و حتى يلقاهم قوم صدق صبر لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم و موتاهم في سبيل الله إلا جدا في طاعة الله و حرصا على لقاء الله و لقد كنا مع رسول الله ص نقتل آباءنا و أبناءنا و إخواننا و أخوالنا و أعمامنا لا يزيدنا ذلك إلا إيمانا و تسليما و مضيا على أمض الألم و جدا على جهاد العدو و الاستقلال بمبارزة الأقران و لقد كان الرجل منا و الآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون فمرة لنا من عدونا و مرة لعدونا منا فلما رآنا الله صدقا صبرا أنزل بعدونا الكبت و أنزل علينا النصر و لعمري لو كنا نأتي مثل الذي أتيتم ما قام الدين و لا عز الإسلام و ايم الله لتحلبنها دما فاحفظوا ما أقول لكم
(103/30)

و روى نصر عن عمرو بن شمر عن فضيل بن خديج قال قيل لعلي ع لما كتبت الصحيفة أن الأشتر لم يرض بما في الصحيفة و لا يرى إلا قتال القوم فقال علي ع بلى إن الأشتر ليرضى إذا رضيت و قد رضيت و رضيتم و لا يصلح الرجوع بعد الرضا و لا التبديل بعد الإقرار إلا أن يعصى الله أو يتعدى ما في كتابه و أما الذي ذكرتم من تركه أمري و ما أنا عليه فليس من أولئك و لا أعرفه على ذلك و ليت فيكم مثله اثنين بل ليت فيكم مثله واحدا يرى في عدوي مثل رأيه إذا لخفت مئونتكم علي و رجوت أن يستقيم لي بعض أودكم
[ 241 ]
(103/31)

قال نصر و روى أبو عبد الله زيد الأودي أن رجلا منهم يقال له عمرو بن أوس قاتل مع علي ع يوم صفين فأسره معاوية في أسرى كثيرة فقال له عمرو بن العاص اقتلهم فقال له عمرو بن أوس لا تقتلني يا معاوية فإنك خالي فقامت إليه بنو أود فاستوهبوه فقال دعوه فلعمري إن كان صادقا فيما ادعاه من خئولتي إياه ليستغنين عن شفاعتكم و إلا فشفاعتكم من ورائه ثم استدناه فقال من أين أنا خالك فو الله ما بين بني عبد شمس و بين أود من مصاهرة قال فإن أخبرتك فعرفت فهو أمان عندك قال نعم قال أ ليست أم حبيبة أختك أم المؤمنين فأنا ابنها و أنت أخوها فأنت إذا خالي فقال معاوية لله أبوه أ ما كان في هؤلاء الأسرى من يفطن إلى هذا غيره ثم خلى سبيله . و روى إبراهيم بن الحسين بن علي الكسائي المعروف بابن ديزيل الهمداني في كتاب صفين قال حدثنا عبد الله بن عمر قال حدثنا عمرو بن محمد قال دعا معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص ليبعثه حكما فجاء و هو متحزم عليه ثيابه و سيفه و حوله أخوه و ناس من قريش فقال له معاوية يا عمرو إن أهل الكوفة أكرهوا عليا على أبي موسى و هو لا يريده و نحن بك راضون و قد ضم إليك رجل طويل اللسان كليل المدية و له بعد حظ من دين فإذا قال فدعه يقل ثم قل فأوجز و اقطع المفصل و لا تلقه بكل رأيك و اعلم أن خب ء الرأي زيادة في العقل فإن خوفك بأهل العراق فخوفه بأهل الشام و إن خوفك بعلي فخوفه بمعاوية و إن
[ 242 ]
(103/32)

خوفك بمصر فخوفه باليمن و إن أتاك بالتفصيل فأته بالجمل فقال له عمرو يا معاوية أنت و علي رجلا قريش و لم تنل في حربك ما رجوت و لم تأمن ما خفت ذكرت أن لعبد الله دينا و صاحب الدين منصور و ايم الله لأفنين عليه علله و لأستخرجن خبأه و لكن إذا جاءني بالإيمان و الهجرة و مناقب علي ما عسيت أن أقول قال قل ما ترى فقال عمرو و هل تدعني و ما أرى و خرج مغضبا كأنه كره أن يوصى ثقة بنفسه و قال لأصحابه حين خرج إنما أراد معاوية أن يصغر أمر أبي موسى لأنه علم أني خادعه غدا فأحب أن يقول إن عمرا لم يخدع أريبا فقد كدته بالخلاف عليه و قال في ذلك
يشجعني معاوية بن حرب
كأني للحوادث مستكين
و إني عن معاوية غني
بحمد الله و الله المعين
و هون أمر عبد الله عمدا
و قال له على ما كان دين
فقلت له و لم أردد عليه
مقالته و للشاكي أنين
ترى أهل العراق يذب عنهم
و عن جيرانهم رجل مهين
فلو جهلوه لم يجهل علي
و غث القول يحمله السمين
و لكن خطبه فيهم عظيم
و فضل المرء فيهم مستبين
فإن أظفر فلم أظفر بوغد
و إن يظفر فقد قطع الوتين
فلما بلغ معاوية شعره غضب من ذلك و قال لو لا مسيره لكان لي فيه رأي فقال له عبد الرحمن ابن أم الحكم أما و الله إن أمثاله في قريش لكثير و لكنك ألزمت نفسك الحاجة إليه فألزمها الغناء عنه فقال له معاوية فأجبه عن شعره فقال عبد الرحمن يعيره بفراره من علي يوم صفين
[ 243 ]
ألا يا عمرو عمرو قبيل سهم
أ من طب أصابك ذا الجنون
دع البغي الذي أصبحت فيه
فإن البغي صاحبه لعين
أ لم تهرب بنفسك من علي
بصفين و أنت بها ضنين
حذارا أن تلاقيك المنايا
و كل فتى سيدركه المنون
و لسنا عائبين عليك إلا
لقولك إنني لا أستكين
(103/33)

قال نصر ثم إن الناس أقبلوا على قتلاهم فدفنوهم قال و قد كان عمر بن الخطاب دعا في خلافته حابس بن سعد الطائي فقال له إني أريد أن أوليك قضاء حمص فكيف أنت صانع قال أجتهد رأيي و أستشير جلسائي قال فانطلق إليها فلم يمش إلا يسيرا حتى رجع فقال يا أمير المؤمنين إني رأيت رؤيا أحببت أن أقصها عليك قال هاتها قال رأيت كأن الشمس أقبلت من المشرق و معها جمع عظيم و كأن القمر قد أقبل من المغرب و معه جمع عظيم فقال له عمر مع أيهما كنت قال كنت مع القمر قال كنت مع الآية الممحوة اذهب فلا و الله لا تلي لي عملا و رده فشهد مع معاوية صفين و كانت راية طي ء معه فقتل يومئذ فمر به عدي بن حاتم و معه ابنه زيد فرآه قتيلا فقال له يا أبت هذا و الله خالي قال نعم لعن الله خالك فبئس و الله المصرع مصرعه فوقف زيد و قال من قتل هذا الرجل مرارا فخرج إليه رجل من بكر بن وائل طوال يخضب فقال أنا قتلته فقال له كيف صنعت به فجعل يخبره فطعنه زيد بالرمح فقتله و ذلك بعد أن وضعت الحرب أوزارها فحمل عليه عدي أبوه يسبه و يشتم أمه و يقول يا ابن المائقة لست على دين محمد إن لم أدفعك إليهم فضرب
[ 244 ]
زيد فرسه فلحق بمعاوية فأكرمه و حمله و أدنى مجلسه فرفع عدي يديه فدعا عليه و قال اللهم إن زيدا قد فارق المسلمين و لحق بالملحدين اللهم فارمه بسهم من سهامك لا يشوي أو قال لا يخطئ فإن رميتك لا تنمي و الله لا أكلمه من رأسي كلمة أبدا و لا يظلني و إياه سقف أبدا و قال زيد في قتل البكري
من مبلغ أبناء طي بأنني
ثأرت بخالي ثم لم أتأثم
تركت أخا بكر ينوء بصدره
بصفين مخضوب الجبين من الدم
و ذكرني ثأري غداة رأيته
فأوجرته رمحي فخر على الفم
لقد غادرت أرماح بكر بن وائل
قتيلا عن الأهوال ليس بمحجم
قتيلا يظل الحي يثنون بعده
عليه بأيد من نداه و أنعم
لقد فجعت طي بحلم و نائل
و صاحب غارات و نهب مقسم
لقد كان خالي ليس خال كمثله
دفاعا لضيم و احتمالا لمغرم
(103/34)

قال نصر و روى الشعبي عن زياد بن النضر أن عليا ع بعث أربعمائة عليهم شريح بن هانئ الحارثي و معه عبد الله بن عباس يصلي بهم و يلي أمورهم و معهم أبو موسى الأشعري و بعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة ثم إنهم
[ 245 ]
خلوا بين الحكمين فكان رأي عبد الله بن قيس أبو موسى في عبد الله بن عمرو بن الخطاب و كان يقول و الله إن استطعت لأحيين سنة عمر . قال نصر و في حديث محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال لما أراد أبو موسى المسير قام إليه شريح بن هانئ فأخذ بيده و قال يا أبا موسى إنك قد نصبت لأمر عظيم لا يجبر صدعه و لا تستقال فتنته و مهما تقل من شي ء عليك أو لك يثبت حقه و تر صحته و إن كان باطلا و إنه لا بقاء لأهل العراق إن ملكهم معاوية و لا بأس على أهل الشام إن ملكهم علي و قد كانت منك تثبيطة أيام الكوفة و الجمل فإن تشفعها بمثلها يكن الظن بك يقينا و الرجاء منك يأسا ثم قال له شريح في ذلك
أبا موسى رميت بشر خصم
فلا تضع العراق فدتك نفسي
و أعط الحق شامهم و خذه
فإن اليوم في مهل كأمس
و إن غدا يجي ء بما عليه
كذاك الدهر من سعد و نحس
و لا يخدعك عمرو إن عمرا
عدو الله مطلع كل شمس
له خدع يحار العقل منها
مموهة مزخرفة بلبس
فلا تجعل معاوية بن حرب
كشيخ في الحوادث غير نكس
هداه الله للإسلام فردا
سوى عرس النبي و أي عرس
فقال أبو موسى ما ينبغي لقوم اتهموني أن يرسلوني لأدفع عنهم باطلا أو أجر إليهم حقا
[ 246 ]
(103/35)

و روى المدائني في كتاب صفين قال لما أجمع أهل العراق على طلب أبي موسى و أحضروه للتحكيم على كره من علي ع أتاه عبد الله بن العباس و عنده وجوه الناس و أشرافهم فقال له يا أبا موسى إن الناس لم يرضوا بك و لم يجتمعوا عليك لفضل لا تشارك فيه و ما أكثر أشباهك من المهاجرين و الأنصار و المتقدمين قبلك و لكن أهل العراق أبوا إلا أن يكون الحكم يمانيا و رأوا أن معظم أهل الشام يمان و ايم الله إني لأظن ذلك شرا لك و لنا فإنه قد ضم إليك داهية العرب و ليس في معاوية خلة يستحق بها الخلافة فإن تقذف بحقك على باطله تدرك حاجتك منه و إن يطمع باطله في حقك يدرك حاجته منك و اعلم يا أبا موسى أن معاوية طليق الإسلام و أن أباه رأس الأحزاب و أنه يدعي الخلافة من غير مشورة و لا بيعة فإن زعم لك أن عمر و عثمان استعملاه فلقد صدق استعمله عمر و هو الوالي عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي و يؤجره ما يكره ثم استعمله عثمان برأي عمر و ما أكثر من استعملا ممن لم يدع الخلافة و اعلم أن لعمرو مع كل شي ء يسرك خبيئا يسوءك و مهما نسيت فلا تنس أن عليا بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان و أنها بيعة هدى و أنه لم يقاتل إلا العاصين و الناكثين فقال أبو موسى رحمك الله و الله ما لي إمام غير علي و إني لواقف عند ما رأى و إن حق الله أحب إلي من رضا معاوية و أهل الشام و ما أنت و أنا إلا بالله . و روى البلاذري في كتاب أنساب الأشراف قال قيل لعبد الله بن عباس
[ 247 ]
(103/36)

ما منع عليا أن يبعثك مع عمرو يوم التحكيم فقال منعه حاجز القدر و محنة الابتلاء و قصر المدة أما و الله لو كنت لقعدت على مدارج أنفاسه ناقضا ما أبرم و مبرما ما نقض أطير إذا أسف و أسف إذا طار و لكن قد سبق قدر و بقي أسف و مع اليوم غد و الآخرة خير لأمير المؤمنين . و ذكر البلاذري أيضا قال قام عمرو بن العاص بالموسم فأطرى معاوية و بني أمية و تناول بني هاشم و ذكر مشاهده بصفين و يوم أبي موسى فقام إليه ابن عباس فقال يا عمرو إنك بعت دينك من معاوية فأعطيته ما في يدك و مناك ما في يد غيره فكان الذي أخذه منك فوق الذي أعطاك و كان الذي أخذت منه دون ما أعطيته و كل راض بما أخذ و أعطى فلما صارت مصر في يدك تتبعك بالنقض عليك و التعقب لأمرك ثم بالعزل لك حتى لو أن نفسك في يدك لأرسلتها و ذكرت يومك مع أبي موسى فلا أراك فخرت إلا بالغدر و لا منيت إلا بالفجور و الغش و ذكرت مشاهدك بصفين فو الله ما ثقلت علينا وطأتك و لا نكأت فينا جرأتك و لقد كنت فيها طويل اللسان قصير البنان آخر الحرب إذا أقبلت و أولها إذا أدبرت لك يدان يد لا تقبضها عن شر و يد لا تبسطها إلى خير و وجهان وجه مؤنس و وجه موحش و لعمري إن من باع دينه بدنيا غيره لحري حزنه على ما باع و اشترى أما إن لك بيانا و لكن فيك خطل و إن لك لرأيا و لكن فيك فشل و إن أصغر عيب فيك لأعظم عيب في غيرك . قال نصر و كان النجاشي الشاعر صديقا لأبي موسى فكتب إليه يحذره من عمرو بن العاص
يؤمل أهل الشام عمرا و إنني
لآمل عبد الله عند الحقائق
[ 248 ]
و إن أبا موسى سيدرك حقنا
إذا ما رمى عمرا بإحدى البوائق
فلله ما يرمى العراق و أهله
به منه إن لم يرمه بالصواعق
فكتب إليه أبو موسى إني لأرجو أن ينجلي هذا الأمر و أنا فيه على رضا الله سبحانه . قال نصر ثم إن شريح بن هانئ جهز أبا موسى جهازا حسنا و عظم أمره في الناس ليشرف في قومه فقال الأعور الشني في ذلك يخاطب شريحا .
(103/37)

زففت ابن قيس زفاف العروس
شريح إلى دومة الجندل
و في زفك الأشعري البلاء
و ما يقض من حادث ينزل
و ما الأشعري بذي إربة
و لا صاحب الخطة الفيصل
و لا آخذا حظ أهل العراق
و لو قيل ها خذه لم يفعل
يحاول عمرا و عمرو له
خدائع يأتي بها من علي
فإن يحكما بالهدى يتبعا
و إن يحكما بالهوى الأميل
يكونا كتيسين في قفرة
أكيلي نقيف من الحنظل
فقال شريح و الله لقد تعجلت رجال مساءتنا في أبي موسى و طعنوا عليه بأسوإ الطعن و ظنوا فيه ما الله عصمه منه إن شاء الله
[ 249 ]
(103/38)

قال و سار مع عمرو بن العاص شرحبيل بن السمط في خيل عظيمة حتى إذا أمن عليه خيل أهل العراق ودعه ثم قال له يا عمرو إنك رجل قريش و إن معاوية لم يبعثك إلا لعلمه أنك لا تؤتى من عجز و لا مكيدة و قد عرفت أني وطئت هذا الأمر لك و لصاحبك فكن عند ظني بك ثم انصرف و انصرف شريح بن هانئ حين أمن خيل أهل الشام على أبي موسى و ودعه . و كان آخر من ودع أبا موسى الأحنف بن قيس أخذ بيده ثم قال له يا أبا موسى اعرف خطب هذا الأمر و اعلم أن له ما بعده و أنك إن أضعت العراق فلا عراق اتق الله فإنها تجمع لك دنياك و آخرتك و إذا لقيت غدا عمرا فلا تبدأه بالسلام فإنها و إن كانت سنة إلا أنه ليس من أهلها و لا تعطه يدك فإنها أمانة و إياك أن يقعدك على صدر الفراش فإنها خدعة و لا تلقه إلا وحده و احذر أن يكلمك في بيت فيه مخدع تخبأ لك فيه الرجال و الشهود ثم أراد أن يثور ما في نفسه لعلي فقال له فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي فليختر أهل العراق من قريش الشام من شاءوا أو فليختر أهل الشام من قريش العراق من شاءوا . فقال أبو موسى قد سمعت ما قلت و لم ينكر ما قاله من زوال الأمر عن علي . فرجع الأحنف إلى علي ع فقال له أخرج أبو موسى و الله زبدة سقائه في أول مخضه لا أرانا إلا بعثنا رجلا لا ينكر خلعك فقال علي الله غالب على أمره . قال نصر و شاع و فشا أمر الأحنف و أبي موسى في الناس فبعث الصلتان العبدي و هو بالكوفة إلى دومة الجندل بهذه الأبيات
[ 250 ]
لعمرك لا ألفي مدى الدهر خالعا
عليا بقول الأشعري و لا عمرو
فإن يحكما بالحق نقبله منهما
و إلا أثرناها كراغية البكر
و لسنا نقول الدهر ذاك إليهما
و في ذاك لو قلناه قاصمة الظهر
و لكن نقول الأمر و النهي كله
إليه و في كفيه عاقبة الأمر
و ما اليوم إلا مثل أمس و إننا
لفي وشل الضحضاح أو لجة البحر
(103/39)

قال فلما سمع الناس قول الصلتان شحذهم ذلك على أبي موسى و استبطأه القوم و ظنوا به الظنون و مكث الرجلان بدومة الجندل لا يقولان شيئا و كان سعد بن أبي وقاص قد اعتزل عليا و معاوية و نزل على ماء لبني سليم بأرض البادية يتشوف الأخبار و كان رجلا له بأس و رأي و مكان في قريش و لم يكن له هوى في علي و لا في معاوية فأقبل راكب يوضع من بعيد فإذا هو ابنه عمر فقال له أبوه مهيم فقال التقى الناس بصفين فكان بينهم ما قد بلغك حتى تفانوا ثم حكموا عبد الله بن قيس و عمرو بن العاص و قد حضر ناس من قريش عندهما و أنت من أصحاب رسول الله ص و من أهل الشورى و من قال له النبي ص اتقوا دعوته و لم تدخل في شي ء مما تكره الأمة فاحضر دومة الجندل فإنك صاحبها غدا فقال مهلا يا عمر
إني سمعت رسول الله ص يقول تكون بعدي فتنة خير الناس فيها التقي الخفي و هذا أمر لم أشهد أوله فلا أشهد آخره
[ 251 ]
(103/40)

و لو كنت غامسا يدي في هذا الأمر لغمستها مع علي بن أبي طالب و قد رأيت أباك كيف وهب حقه من الشورى و كره الدخول في الأمر فارتحل عمر و قد استبان له أمر أبيه . قال نصر و قد كان الأجناد أبطأت على معاوية فبعث إلى رجال من قريش كانوا كرهوا أن يعينوه في حربه إن الحرب قد وضعت أوزارها و التقى هذان الرجلان في دومة الجندل فاقدموا علي . فأتاه عبد الله بن الزبير و عبد الله بن عمر بن الخطاب و أبو الجهم بن حذيفة العدوي و عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري و عبد الله بن صفوان الجمحي و أتاه المغيرة بن شعبة و كان مقيما بالطائف لم يشهد الحرب فقال له يا مغيرة ما ترى قال يا معاوية لو وسعني أن أنصرك لنصرتك و لكن علي أن آتيك بأمر الرجلين فرحل حتى أتى دومة الجندل فدخل على أبي موسى كالزائر له فقال يا أبا موسى ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر و كره الدماء قال أولئك خير الناس خفت ظهورهم من دمائهم و خمصت بطونهم من أموالهم ثم أتى عمرا فقال يا أبا عبد الله ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر و كره الدماء قال أولئك شرار الناس لم يعرفوا حقا و لم ينكروا باطلا فرجع المغيرة إلى معاوية فقال له قد ذقت الرجلين أما عبد الله
[ 252 ]
(103/41)

بن قيس فخالع صاحبه و جاعلها لرجل لم يشهد هذا الأمر و هواه في عبد الله بن عمر و أما عمرو بن العاص فهو صاحب الذي تعرف و قد ظن الناس أنه يرومها لنفسه و أنه لا يرى أنك أحق بهذا الأمر منه قال نصر في حديث عمرو بن شمر قال أقبل أبو موسى على عمرو فقال يا عمرو هل لك في أمر هو للأمة صلاح و لصلحاء الناس رضا نولي هذا الأمر عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي لم يدخل في شي ء من هذه الفتنة و لا هذه الفرقة قال و كان عبد الله بن عمرو بن العاص و عبد الله بن الزبير قريبين يسمعان هذا الكلام فقال عمرو فأين أنت يا أبا موسى عن معاوية فأبى عليه أبو موسى قال و شهدهم عبد الله بن هشام و عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث و أبو الجهم بن حذيفة العدوي و المغيرة بن شعبة فقال عمرو أ لست تعلم أن عثمان قتل مظلوما قال بلى قال اشهدوا ثم قال فما يمنعك من معاوية و هو ولي عثمان و قد قال الله تعالى وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ثم إن بيت معاوية من قريش ما قد علمت فإن خشيت أن يقول الناس ولى معاوية و ليست له سابقة فإن لك حجة أن تقول وجدته ولي عثمان الخليفة المظلوم و الطالب بدمه الحسن السياسة الحسن التدبير و هو أخو أم حبيبة أم المؤمنين و زوج النبي ص و قد صحبه و هو أحد الصحابة ثم عرض له بالسلطان فقال له إن هو ولي الأمر أكرمك كرامة لم يكرمك أحد قط مثلها فقال أبو موسى اتق الله يا عمرو أما ما ذكرت من شرف معاوية فإن هذا
[ 253 ]
(103/42)

الأمر ليس على الشرف يولاه أهله لو كان على الشرف كان أحق الناس بهذا الأمر أبرهة بن الصباح إنما هو لأهل الدين و الفضل مع أني لو كنت أعطيه أفضل قريش شرفا لأعطيته علي بن أبي طالب و أما قولك إن معاوية ولي عثمان فوله هذا الأمر فإني لم أكن أوليه إياه لنسبته من عثمان و أدع المهاجرين الأولين و أما تعريضك لي بالإمرة و السلطان فو الله لو خرج لي من سلطانه ما وليته و ما كنت أرتشي في الله و لكنك إن شئت أحيينا سنة عمر بن الخطاب . قال نصر و حدثني عمر بن سعد عن أبي جناب أن أبا موسى قال غير مرة و الله إن استطعت لأحيين اسم عمر بن الخطاب قال فقال عمرو بن العاص إن كنت إنما تريد أن تبايع ابن عمر لدينه فما يمنعك من ابني عبد الله و أنت تعرف فضله و صلاحه فقال إن ابنك لرجل صدق و لكنك قد غمسته في هذه الفتنة . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن محمد بن إسحاق عن نافع قال قال أبو موسى لعمرو يا عمرو إن شئت ولينا هذا الأمر الطيب ابن الطيب عبد الله بن عمر فقال له عمرو يا أبا موسى إن هذا الأمر لا يصلح له إلا رجل له ضرس يأكل و يطعم و إن عبد الله ليس هناك . قال نصر و قد كان في أبي موسى غفلة فقال ابن الزبير لابن عمر اذهب إلى عمرو بن العاص فارشه فقال ابن عمر لا و الله لا أرشو عليها بشي ء أبدا ما عشت و لكنه قال له إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعت بالسيوف و تطاعنت بالرماح فلا تردهم في فتنة و اتق الله .
[ 254 ]
(103/43)

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن أزهر العبسي عن النضر بن صالح قال كنت مع شريح بن هانئ في غزوة سجستان فحدثني أن عليا ع أوصاه بكلمات إلى عمرو بن العاص و قال له قل لعمرو إذا لقيته إن عليا يقول لك إن أفضل الخلق عند الله من كان العمل بالحق أحب إليه و إن نقصه و إن أبعد الخلق من الله من كان العمل بالباطل أحب إليه و إن زاده و الله يا عمرو إنك لتعلم أين موضع الحق فلم تتجاهل أ بأن أوتيت طمعا يسيرا صرت لله و لأوليائه عدوا فكان و الله ما قد أوتيت قد زال عنك فلا تكن للخائنين خصيما و لا للظالمين ظهيرا أما إني أعلم أن يومك الذي أنت فيه نادم هو يوم وفاتك و سوف تتمنى أنك لم تظهر لي عداوة و لم تأخذ على حكم الله رشوة قال شريح فأبلغته ذلك يوم لقيته فتمعر وجهه و قال متى كنت قابلا مشورة علي أو منيبا إلى رأيه أو معتدا بأمره فقلت و ما يمنعك يا ابن النابغة أن تقبل من مولاك و سيد المسلمين بعد نبيهم مشورته لقد كان من هو خير منك أبو بكر و عمر يستشيرانه و يعملان برأيه فقال إن مثلي لا يكلم مثلك فقلت بأي أبويك ترغب عن كلامي بأبيك الوشيظ أم بأمك النابغة فقام من مكانه و قمت . قال نصر و روى أبو جناب الكلبي أن عمرا و أبا موسى لما التقيا بدومة الجندل أخذ عمرو يقدم أبا موسى في الكلام و يقول إنك صحبت رسول الله ص قبلي و أنت أكبر مني سنا فتكلم أنت ثم أتكلم أنا فجعل ذلك سنة و عادة بينهما
[ 255 ]
(103/44)

و إنما كان مكرا و خديعة و اغترارا له أن يقدمه فيبدأ بخلع علي ثم يرى رأيه . و قال ابن ديزيل في كتاب صفين أعطاه عمرو صدر المجلس و كان لا يتكلم قبله و أعطاه التقدم في الصلاة و في الطعام لا يأكل حتى يأكل و إذا خاطبه فإنما يخاطبه بأجل الأسماء و يقول له يا صاحب رسول الله حتى اطمأن إليه و ظن أنه لا يغشه . قال نصر فلما انمخضت الزبدة بينهما قال له عمرو أخبرني ما رأيك يا أبا موسى قال أرى أن أنخلع هذين الرجلين و نجعل الأمر شورى بين المسلمين يختارون من شاءوا فقال عمرو الرأي و الله ما رأيت فأقبلا إلى الناس و هم مجتمعون فتكلم أبو موسى فحمد الله و أثنى عليه ثم قال إن رأيي و رأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به شأن هذه الأمة فقال عمرو صدق ثم قال له تقدم يا أبا موسى فتكلم فقام ليتكلم فدعاه ابن عباس فقال له ويحك و الله إني لأظنه خدعك إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه قبلك ليتكلم به ثم تكلم أنت بعده فإنه رجل غدار و لا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك و بينه فإذا قمت قمت به في الناس خالفك و كان أبو موسى رجلا مغفلا فقال إيها عنك إنا قد اتفقنا . فتقدم أبو موسى فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر شيئا هو أصلح لأمرها و لا ألم لشعثها من ألا تتباين أمورها و قد أجمع رأيي و رأي صاحبي على خلع علي و معاوية و أن يستقبل هذا الأمر فيكون شورى بين المسلمين يولون أمورهم من أحبوا و إني قد خلعت عليا و معاوية فاستقبلوا
[ 256 ]
(103/45)

أموركم و ولوا من رأيتموه لهذا الأمر أهلا ثم تنحى . فقام عمرو بن العاص في مقامه فحمد الله و أثنى عليه ثم قال إن هذا قد قال ما سمعتم و خلع صاحبه و أنا أخلع صاحبه كما خلعه و أثبت صاحبي معاوية في الخلافة فإنه ولي عثمان و الطالب بدمه و أحق الناس بمقامه . فقال له أبو موسى ما لك لا وفقك الله قد غدرت و فجرت إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فقال له عمرو إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا . و حمل شريح بن هانئ على عمرو فقنعه بالسوط و حمل ابن عمرو على شريح فقنعه بالسوط و قام الناس فحجزوا بينهما فكان شريح يقول بعد ذلك ما ندمت على شي ء ندامتي ألا أكون ضربت عمرا بالسيف بدل السوط أتى الدهر بما أتى به . و التمس أصحاب علي ع أبا موسى فركب ناقته و لحق بمكة و كان ابن عباس يقول قبح الله أبا موسى لقد حذرته و هديته إلى الرأي فما عقل و كان أبو موسى يقول لقد حذرني ابن عباس غدرة الفاسق و لكني اطمأننت إليه و ظننت أنه لا يؤثر شيئا على نصيحة الأمة . قال نصر و رجع عمرو إلى منزله من دومة الجندل فكتب إلى معاوية
أتتك الخلافة مزفوفة
هنيئا مريئا تقر العيونا
[ 257 ]
تزف إليك زفاف العروس
بأهون من طعنك الدارعينا
و ما الأشعري بصلد الزناد
و لا خامل الذكر في الأشعرينا
و لكن أتيحت له حية
يظل الشجاع لها مستكينا
فقالوا و قلت و كنت امرأ
أجهجه بالخصم حتى يلينا
فخذها ابن هند على بعدها
فقد دافع الله ما تحذرونا
و قد صرف الله عن شامكم
عدوا مبينا و حربا زبونا
قال نصر فقام سعد بن قيس الهمداني و قال و الله لو اجتمعتما على الهدى ما زدتمانا على ما نحن الآن عليه و ما ضلالكما بلازم لنا و ما رجعتما إلا بما بدأتما به و إنا اليوم لعلى ما كنا عليه أمس . و قام كردوس بن هانئ مغضبا فقال
ألا ليت من يرضى من الناس كلهم
بعمرو و عبد الله في لجة البحر
رضينا بحكم الله لا حكم غيره
و بالله ربا و النبي و بالذكر
(103/46)

و بالأصلع الهادي علي إمامنا
رضينا بذاك الشيخ في العسر و اليسر
رضينا به حيا و ميتا و إنه
إمام هدى في الحكم و النهي و الأمر
فمن قال لا قلنا بلى إن أمره
لأفضل ما نعطاه في ليلة القدر
و ما لابن هند بيعة في رقابنا
و ما بيننا غير المثقفة السمر
[ 258 ]
و ضرب يزيل الهام عن مستقره
و هيهات هيهات الرضا آخر الدهر
أبت لي أشياخ الأراقم سبة
أسب بها حتى أغيب في القبر
و تكلم يزيد بن أسد القسري و هو من قواد معاوية فقال يا أهل العراق اتقوا الله فإن أهون ما تردنا و إياكم إليه الحرب ما كنا عليه بالأمس و هو الفناء و قد شخصت الأبصار إلى الصلح و أشرفت الأنفس على الفناء و أصبح كل امرئ يبكي على قتيل ما لكم رضيتم بأول أمر صاحبكم و كرهتم آخره إنه ليس لكم وحدكم الرضا . قال و قال بعض الأشعريين لأبي موسى
أبا موسى خدعت و كنت شيخا
قريب القعر مدهوش الجنان
رمى عمرو صفاتك يا ابن قيس
بأمر لا تنوء به اليدان
و قد كنا نجمجم عن ظنون
فصرحت الظنون عن العيان
فعض الكف من ندم و ما ذا
يرد عليك عضك بالبنان
قال و شمت أهل الشام بأهل العراق و قال كعب بن جعيل شاعر معاوية
كأن أبا موسى عشية أذرح
يطوف بلقمان الحكيم يواربه
و لما تلاقوا في تراث محمد
نمت بابن هند في قريش مناسبه
سعى بابن عفان ليدرك ثأره
و أولى عباد الله بالثأر طالبه
[ 259 ]
و قد غشيتنا في الزبير غضاضة
و طلحة إذ قامت عليه نوادبه
فرد ابن هند ملكه في نصابه
و من غالب الأقدار فالله غالبه
و ما لابن هند من لؤي بن غالب
نظير و إن جاشت عليه أقاربه
فهذاك ملك الشام واف سنامه
و هذاك ملك القوم قد جب غاربه
يحاول عبد الله عمرا و إنه
ليضرب في بحر عريض مذاهبه
دحا دحوة في صدره فهوت به
إلى أسفل الجب الظنون كواذبه
(103/47)

قال نصر و كان علي ع لما خدع عمرو أبا موسى بالكوفة كان قد دخلها منتظرا ما يحكم به الحكمان فلما تم على أبي موسى ما تم من الحيلة غم ذلك عليا و ساءه و وجم له و خطب الناس فقال الحمد لله و إن أتى الدهر بالخطب الفادح و الحدث الجليل . . . الخطبة التي ذكرها الرضي رحمه الله تعالى و هي التي نحن في شرحها و زاد في آخرها بعد الاستشهاد ببيت دريد
ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما قد نبذا حكم الكتاب و أحييا ما أمات و اتبع كل واحد منهما هواه و حكم بغير حجة و لا بينة و لا سنة ماضية و اختلفا فيما حكما فكلاهما لم يرشد الله فاستعدوا للجهاد و تأهبوا للمسير و أصبحوا في معسكركم يوم كذا
[ 260 ]
قال نصر فكان علي ع بعد الحكومة إذا صلى الغداة و المغرب و فرغ من الصلاة و سلم قال اللهم العن معاوية و عمرا و أبا موسى و حبيب بن مسلمة و عبد الرحمن بن خالد و الضحاك بن قيس و الوليد بن عقبة فبلغ ذلك معاوية فكان إذا صلى لعن عليا و حسنا و حسينا و ابن عباس و قيس بن سعد بن عبادة و الأشتر و زاد ابن ديزيل في أصحاب معاوية أبا الأعور السلمي . و روى ابن ديزيل أيضا أن أبا موسى كتب من مكة إلى علي ع أما بعد فإني قد بلغني أنك تلعنني في الصلاة و يؤمن خلفك الجاهلون و إني أقول كما قال موسى ع رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ .
و روى ابن ديزيل عن وكيع عن فضل بن مرزوق عن عطية عن عبد الرحمن بن حبيب عن علي ع أنه قال يؤتى بي و بمعاوية يوم القيامة فنجي ء و نختصم عند ذي العرش فأينا فلج فلج أصحابه
و روى أيضا عن عبد الرحمن بن نافع القارئ عن أبيه قال سئل علي ع عن قتلى صفين فقال إنما الحساب علي و على معاوية
و روي أيضا عن الأعمش عن موسى بن طريف عن عباية قال سمعت عليا ع و هو يقول أنا قسيم النار هذا لي و هذا لك
(103/48)

و روي أيضا عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ص لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعوتهما واحدة فبينما هم كذلك مرقت منهم مارقة يقتلهم أولى الطائفتين بالحق .
[ 261 ]
قال إبراهيم بن ديزيل و حدثنا سعيد بن كثير عن عفير قال حدثنا ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن حنش الصنعاني قال جئت إلى أبي سعيد الخدري و قد عمي فقلت أخبرني عن هذه الخوارج فقال تأتوننا فنخبركم ثم ترفعون ذلك إلى معاوية فيبعث إلينا بالكلام الشديد قال قلت أنا حنش فقال مرحبا بك يا حنش المصري
سمعت رسول الله ص يقول يخرج ناس يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر أحدكم في نصله فلا يرى شيئا فينظر في قذذه فلا يرى شيئا سبق الفرث و الدم يصلى بقتالهم أولى الطائفتين بالله فقال حنش فإن عليا صلي بقتالهم فقال أبو سعيد و ما يمنع عليا أن يكون أولى الطائفتين بالله . و ذكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في أماليه قال قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد حضرت الحكومة فلما كان يوم الفصل جاء عبد الله بن عباس فقعد إلى جانب أبي موسى و قد نشر أذنيه حتى كاد أن ينطق بهما فعلمت أن الأمر لا يتم لنا ما دام هناك و أنه سيفسد على عمرو حيلته فأعملت المكيدة في أمره فجئت حتى قعدت عنده و قد شرع عمرو و أبو موسى في الكلام فكلمت ابن عباس كلمة استطعمته جوابها فلم يجب فكلمته أخرى فلم يجب فكلمته ثالثة فقال إني لفي شغل عن حوارك الآن فجبهته و قلت يا بني هاشم لا تتركون بأوكم و كبركم أبدا أما و الله لو لا مكان النبوة لكان لي و لك شأن قال فحمي و غضب و اضطرب فكره و رأيه و أسمعني كلاما يسوء سماعه فأعرضت عنه و قمت فقعدت إلى جانب عمرو بن العاص فقلت قد كفيتك التقوالة إني قد شغلت باله بما دار بيني و بينه فأحكم أنت أمرك قال
[ 262 ]
(103/49)

فذهل و الله ابن عباس عن الكلام الدائر بين الرجلين حتى قام أبو موسى فخلع عليا . و روى الزبير بن بكار في الموفقيات و رواه جميع الناس ممن عني بنقل الآثار و السير عن الحسن البصري قال أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه إلا واحدة منهن لكانت موبقة انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم و فيهم بقايا الصحابة و ذوو الفضيلة و استخلافه بعده ابنه يزيد سكيرا خميرا يلبس الحرير و يضرب بالطنابير و ادعاؤه زيادا
و قد قال رسول الله ص الولد للفراش و للعاهر الحجر و قتله حجر بن عدي و أصحابه فيا ويله من حجر و أصحاب حجر . و روى في الموفقيات أيضا الخبر الذي رواه المدائني و قد ذكرناه آنفا من كلام ابن عباس لأبي موسى و قوله إن الناس لم يرتضوك لفضل عندك لم تشارك فيه و ذكر في آخره فقال بعض شعراء قريش
و الله ما كلم الأقوام من بشر
بعد الوصي علي كابن عباس
أوصى ابن قيس بأمر فيه عصمته
لو كان فيها أبو موسى من الناس
إني أخاف عليه مكر صاحبه
أرجو رجاء مخوف شيب بالياس
و ذكر الزبير أيضا في الموفقيات أن يزيد بن حجية التيمي شهد الجمل و صفين و نهروان مع علي ع ثم ولاه الري و دستبى فسرق من أموالهما و لحق بمعاوية و هجا عليا و أصحابه و مدح معاوية و أصحابه فدعا عليه علي ع و رفع أصحابه أيديهم فأمنوا و كتب إليه رجل من بني عمه كتابا يقبح إليه
[ 263 ]
(103/50)

ما صنع و كان الكتاب شعرا فكتب يزيد بن حجية إليه لو كنت أقول شعرا لأجبتك و لكن قد كان منكم خلال ثلاث لا ترون معهن شيئا مما تحبون أما الأولى فإنكم سرتم إلى أهل الشام حتى إذا دخلتم بلادهم و طعنتموهم بالرماح و أذقتموهم ألم الجراح رفعوا المصاحف فسخروا منكم و ردوكم عنهم فو الله و و الله لا دخلتموها بمثل تلك الشوكة و الشدة أبدا و الثانية أن القوم بعثوا حكما و بعثتم حكما فأما حكمهم فأثبتهم و أما حكمكم فخلعكم و رجع صاحبهم يدعي أمير المؤمنين و رجعتم متضاغنين و الثالثة أن قراءكم و فقهاءكم و فرسانكم خالفوكم فعدوتم عليهم فقتلتموهم ثم كتب في آخر الكتاب بيتين لعفان بن شرحبيل التميمي
أحببت أهل الشام من بين الملا
و بكيت من أسف على عثمان
أرضا مقدسة و قوما منهم
أهل اليقين و تابعو الفرقان
و ذكر أبو أحمد العسكري في كتاب الأمالي أن سعد بن أبي وقاص دخل على معاوية عام الجماعة فلم يسلم عليه بإمرة المؤمنين فقال له معاوية لو شئت أن تقول في سلامك غير هذا لقلت فقال سعد نحن المؤمنون و لم نؤمرك كأنك قد بهجت بما أنت فيه يا معاوية و الله ما يسرني ما أنت فيه و أني هرقت المحجمة دم قال و لكني و ابن عمك عليا يا أبا إسحاق قد هرقنا أكثر من محجمة و محجمتين هلم فاجلس معي على السرير فجلس معه فذكر له معاوية اعتزاله الحرب يعاتبه فقال سعد إنما كان مثلي و مثل الناس كقوم أصابتهم ظلمة فقال واحد منهم لبعيره إخ فأناخ حتى أضاء له الطريق
[ 264 ]
(103/51)

فقال معاوية و الله يا أبا إسحاق ما في كتاب الله إخ و إنما فيه وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى اَلْأُخْرى فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اَللَّهِ فو الله ما قاتلت الباغية و لا المبغي عليها فأفحمه . و زاد ابن ديزيل في هذا الخبر زيادة ذكرها في كتاب صفين قال فقال سعد أ تأمرني أن أقاتل رجلا قال له رسول الله ص
أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي فقال معاوية من سمع هذا معك قال فلان و فلان و أم سلمة فقال معاوية لو كنت سمعت هذا لما قاتلته
[ 265 ]
(103/52)

36 ـ و من خطبة له ع في تخويف أهل النهروان
فَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هَذَا اَلنَّهَرِ وَ بِأَهْضَامِ هَذَا اَلْغَائِطِ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لاَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ مَعَكُمْ قَدْ طَوَّحَتْ بِكُمُ اَلدَّارُ وَ اِحْتَبَلَكُمُ اَلْمِقْدَارُ وَ قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ هَذِهِ اَلْحُكُومَةِ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ اَلْمُخَالِفِينَ اَلْمُنَابِذِينَ [ اَلْمُخَالِفِينَ ] حَتَّى صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَى هَوَاكُمْ وَ أَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ اَلْهَامِ سُفَهَاءُ اَلْأَحْلاَمِ وَ لَمْ آتِ لاَ أَبَا لَكُمْ بُجْراً وَ لاَ أَرَدْتُ بِكُمْ ضُرّاً الأهضام جمع هضم و هو المطمئن من الوادي و الغائط ما سفل من الأرض . و احتبلكم المقدار أوقعكم في الحبالة . و البجر الداهية و الأمر العظيم و يروى هجرا و هو المستقبح من القول و يروى عرا و العر قروح في مشافر الإبل و يستعار للداهية
(104/1)

أخبار الخوارج
قد تظافرت الأخبار حتى بلغت حد التواتر بما وعد الله تعالى قاتلي الخوارج من الثواب على لسان رسوله ص
و في الصحاح المتفق عليها : أن
[ 266 ]
رسول الله ص بينا هو يقسم قسما جاء رجل من بني تميم يدعى ذا الخويصرة فقال اعدل يا محمد فقال ع قد عدلت فقال له ثانية اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال ص ويلك و من يعدل إذا لم أعدل فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله ائذن لي أضرب عنقه فقال دعه فسيخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر أحدكم إلى نصله فلا يجد شيئا فينظر إلى نضيه فلا يجد شيئا ثم ينظر إلى القذذ فكذلك سبق الفرث و الدم يخرجون على حين فرقة من الناس تحتقر صلاتكم في جنب صلاتهم و صومكم عند صومهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم آيتهم رجل أسود أو قال أدعج مخدج اليد إحدى يديه كأنها ثدي امرأة أو بضعة تدردر
و في بعض الصحاح : أن رسول الله ص قال لأبي بكر و قد غاب الرجل
[ 267 ]
عن عينه قم إلى هذا فاقتله فقام ثم عاد و قال وجدته يصلي فقال لعمر مثل ذلك فعاد و قال وجدته يصلي فقال لعلي ع مثل ذلك فعاد فقال لم أجده فقال رسول الله ص لو قتل هذا لكان أول فتنة و آخرها أما إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم الحديث . و في بعض الصحاح يقتلهم أولى الفريقين بالحق .
و في مسند أحمد بن حنبل عن مسروق قال : قالت لي عائشة إنك من ولدي و من أحبهم إلي فهل عندك علم من المخدج فقلت نعم قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال لأعلاه تامرا و لأسفله النهروان بين لخاقيق و طرفاء قالت ابغني على ذلك بينة فأقمت رجالا شهدوا عندها بذلك قال فقلت لها سألتك بصاحب القبر ما الذي سمعت من رسول الله ص فيهم فقالت نعم سمعته يقول إنهم شر الخلق و الخليقة يقتلهم خير الخلق و الخليقة و أقربهم عند الله وسيلة
و في كتاب صفين للواقدي عن علي ع : لو لا أن تبطروا فتدعوا العمل لحدثتكم بما سبق على لسان رسول الله ص لمن قتل هؤلاء
(105/1)

و فيه قال علي ع : إذا حدثتكم عن رسول الله ص فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله ص و إذا حدثتكم فيما بيننا عن نفسي فإن الحرب خدعة و إنما أنا رجل محارب سمعت رسول الله ص يقول يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام قولهم من خير
[ 268 ]
أقوال أهل البرية صلاتهم أكثر من صلاتكم و قراءتهم أكثر من قراءتكم لا يجاوز إيمانهم تراقيهم أو قال حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة و في كتاب صفين أيضا للمدائني عن مسروق أن عائشة قالت له لما عرفت أن عليا ع قتل ذا الثدية لعن الله عمرو بن العاص فإنه كتب إلي يخبرني أنه قتله بالإسكندرية ألا إنه ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعته من رسول الله ص يقول
يقتله خير أمتي من بعدي و ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ أن عليا ع لما دخل الكوفة دخلها معه كثير من الخوارج و تخلف منهم بالنخيلة و غيرها خلق كثير لم يدخلوها فدخل حرقوص بن زهير السعدي و زرعة بن البرج الطائي و هما من رءوس الخوارج على علي ع فقال له حرقوص تب من خطيئتك و اخرج بنا إلى معاوية نجاهده فقال له علي ع إني كنت نهيتكم عن الحكومة فأبيتم ثم الآن تجعلونها ذنبا أما إنها ليست بمعصية و لكنها عجز من الرأي و ضعف في التدبير و قد نهيتكم عنه فقال زرعة أما و الله لئن لم تتب من تحكيمك الرجال لأقتلنك أطلب بذلك وجه الله و رضوانه فقال علي ع بؤسا لك ما أشقاك كأني بك قتيلا تسفي عليك الرياح قال زرعة وددت أنه كان ذلك . قال و خرج علي ع يخطب الناس فصاحوا به من جوانب المسجد
[ 269 ]
(105/2)

لا حكم إلا لله و صاح به رجل منهم واضع إصبعه في أذنيه فقال و لقد أوحي إليك و إلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين فقال له علي ع فاصبر إن وعد الله حق و لا يستخفنك الذين لا يوقنون . و روى ابن ديزيل في كتاب صفين قال كانت الخوارج في أول ما انصرفت عن رايات علي ع تهدد الناس قتلا قال فأتت طائفة منهم على النهر إلى جانب قرية فخرج منها رجل مذعورا آخذا بثيابه فأدركوه فقالوا له رعبناك قال أجل فقالوا له قد عرفناك أنت عبد الله بن خباب صاحب رسول الله ص قال نعم قالوا فما سمعت من أبيك يحدث عن رسول الله ص .
قال ابن ديزيل فحدثهم أن رسول الله ص قال : إن فتنة جائية القاعد فيها خير من القائم الحديث .
و قال غيره بل حدثهم : أن طائفة تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية يقرءون القرآن صلاتهم أكثر من صلاتكم الحديث فضربوا رأسه فسال دمه في النهر ما امذقر أي ما اختلط بالماء كأنه شراك ثم دعوا بجارية له حبلى فبقروا عما في بطنها .
و روى ابن ديزيل قال : عزم علي ع على الخروج من الكوفة إلى الحرورية و كان في أصحابه منجم فقال له يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة
[ 270 ]
(105/3)

و سر على ثلاث ساعات مضين من النهار فإنك إن سرت في هذه الساعة أصابك و أصحابك أذى و ضر شديد و إن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت و ظهرت و أصبت ما طلبت فقال له علي ع أ تدري ما في بطن فرسي هذه أ ذكر هو أم أنثى قال إن حسبت علمت فقال علي ع من صدقك بهذا فقد كذب بالقرآن قال الله تعالى إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلْأَرْحامِ الآية ثم قال ع إن محمدا ص ما كان يدعي علم ما ادعيت علمه أ تزعم أنك تهدي إلى الساعة التي يصيب النفع من سار فيها و تصرف عن الساعة التي يحيق السوء بمن سار فيها فمن صدقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة بالله جل ذكره في صرف المكروه عنه و ينبغي للموقن بأمرك أن يوليك الحمد دون الله جل جلاله لأنك بزعمك هديته إلى الساعة التي يصيب النفع من سار فيها و صرفته عن الساعة التي يحيق السوء بمن سار فيها فمن آمن بك في هذا لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ضدا و ندا اللهم لا طير إلا طيرك و لا ضر إلا ضرك و لا إله غيرك ثم قال نخالف و نسير في الساعة التي نهيتنا عنها ثم أقبل على الناس فقال أيها الناس إياكم و التعلم للنجوم إلا ما يهتدى به في ظلمات البر و البحر إنما المنجم كالكاهن و الكاهن كالكافر و الكافر في النار أما و الله لئن بلغني أنك تعمل بالنجوم لأخلدنك السجن أبدا ما بقيت و لأحرمنك العطاء ما كان لي من سلطان ثم سار في الساعة التي نهاه عنها المنجم فظفر بأهل النهر و ظهر عليهم ثم قال لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها المنجم لقال الناس سار في الساعة التي أمر بها المنجم فظفر و ظهر أما إنه ما كان لمحمد ص منجم و لا لنا من بعده حتى فتح الله علينا بلاد كسرى و قيصر أيها الناس توكلوا على الله و ثقوا به فإنه يكفي ممن سواه
[ 271 ]
(105/4)

قال فروى مسلم الضبي عن حبة العرني قال لما انتهينا إليهم رمونا فقلنا لعلي ع يا أمير المؤمنين قد رمونا فقال لنا كفوا ثم رمونا فقال لنا ع كفوا ثم الثالثة فقال الآن طاب القتال احملوا عليهم . و روى أيضا عن قيس بن سعد بن عبادة أن عليا ع لما انتهى إليهم قال لهم أقيدونا بدم عبد الله بن خباب فقالوا كلنا قتله فقال احملوا عليهم و ذكر أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل أن أول من قال لا حكم إلا لله عروة بن حدير قالها بصفين و قيل زيد بن عاصم المحاربي قال و كان أميرهم أول ما اعتزلوا ابن الكواء ثم بايعوا لعبد الله بن وهب الراسبي و كان أحد الخطباء فقال لهم عند بيعتهم إياه إياكم و الرأي الفطير و الكلام الفضيب دعوا لرأي يغب فإن غبوبه يكشف للمرء عن قضته و ازدحام الجواب مضلة للصواب و ليس الرأي بالارتجال و لا الحزم بالاقتضاب فلا تدعونكم السلامة من خطأ موبق و غنيمة نلتموها من غير صواب إلى معاودته و التماس الربح من جهته إن الرأي ليس بنهنهي و لا هو ما أعطتك البديهة و إن خمير الرأي خير من فطيره و رب شي ء غابه خير من طريئه و تأخيره خير من تقديمه . و ذكر المدائني في كتاب الخوارج قال لما خرج علي ع إلى أهل النهر أقبل رجل من أصحابه ممن كان على مقدمته يركض حتى انتهى إلى علي ع
[ 272 ]
(105/5)

فقال البشرى يا أمير المؤمنين قال ما بشراك قال إن القوم عبروا النهر لما بلغهم وصولك فأبشر فقد منحك الله أكتافهم فقال له آلله أنت رأيتهم قد عبروا قال نعم فأحلفه ثلاث مرات في كلها يقول نعم فقال علي ع و الله ما عبروه و لن يعبروه و إن مصارعهم لدون النطفة و الذي فلق الحبة و برأ النسمة لن يبلغوا الأثلاث و لا قصر بوازن حتى يقتلهم الله و قد خاب من افترى قال ثم أقبل فارس آخر يركض فقال كقول الأول فلم يكترث علي ع بقوله و جاءت الفرسان تركض كلها تقول مثل ذلك فقام علي ع فجال في متن فرسه قال فيقول شاب من الناس و الله لأكونن قريبا منه فإن كانوا عبروا النهر لأجعلن سنان هذا الرمح في عينه أ يدعي علم الغيب فلما انتهى ع إلى النهر وجد القوم قد كسروا جفون سيوفهم و عرقبوا خيلهم و جثوا على ركبهم و حكموا تحكيمة واحدة بصوت عظيم له زجل فنزل ذلك الشاب فقال يا أمير المؤمنين إني كنت شككتك فيك آنفا و إني تائب إلى الله و إليك فاغفر لي فقال علي ع إن الله هو الذي يغفر الذنوب فاستغفره . و ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في الكامل قال لما واقفهم علي ع بالنهروان قال لا تبدءوهم بقتال حتى يبدءوكم فحمل منهم رجل على صف علي ع فقتل منهم ثلاثة ثم قال
أقتلهم و لا أرى عليا
و لو بدا أوجرته الخطيا
فخرج إليه علي ع فضربه فقتله فلما خالطه سيفه قال يا حبذا الروحة إلى الجنة فقال عبد الله بن وهب و الله ما أدري إلى الجنة أم إلى النار فقال رجل منهم
[ 273 ]
(105/6)

من بني سعد إنما حضرت اغترارا بهذا الرجل يعني عبد الله و أراه قد شك و اعتزل عن الحرب بجماعة من الناس و مال ألف منهم إلى جهة أبي أيوب الأنصاري و كان على ميمنة علي ع فقال علي ع لأصحابه احملوا عليهم فو الله لا يقتل منكم عشرة و لا يسلم منهم عشرة فحمل عليهم فطحنهم طحنا قتل من أصحابه ع تسعة و أفلت من الخوارج ثمانية و ذكر أبو العباس و ذكر غيره أيضا أن أمير المؤمنين ع لما وجه إليهم عبد الله بن عباس ليناظرهم قال لهم ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين قالوا له قد كان للمؤمنين أميرا فلما حكم في دين الله خرج من الإيمان فليتب بعد إقراره بالكفر نعد إليه قال ابن عباس ما ينبغي لمؤمن لم يشب إيمانه بشك أن يقر على نفسه بالكفر قالوا إنه حكم قال إن الله أمر بالتحكيم في قتل صيد فقال يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين فقالوا إنه حكم عليه فلم يرض فقال إن الحكومة كالإمامة و متى فسق الإمام وجبت معصيته و كذلك الحكمان لما خالفا نبذت أقاويلهما فقال بعضهم لبعض اجعلوا احتجاج قريش حجة عليهم فإن هذا من الذين قال الله فيهم بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ و قال جل ثناؤه وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا . قال أبو العباس و يقال إن أول من حكم عروة بن أدية و أدية جدة له جاهلية و هو عروة بن حدير أحد بني ربيعة بن حنظلة و قال قوم أول من حكم رجل من بني
[ 274 ]
(105/7)

محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان يقال له سعيد و لم يختلفوا في اجتماعهم على عبد الله بن وهب الراسبي و أنه امتنع عليهم و أومأ إلى غيره فلم يقنعوا إلا به فكان إمام القوم و كان يوصف برأي فأما أول سيف سل من سيوف الخوارج فسيف عروة بن أدية و ذاك أنه أقبل على الأشعث فقال له ما هذه الدنية يا أشعث و ما هذا التحكيم أ شرط أوثق من شرط الله عز و جل ثم شهر عليه السيف و الأشعث مول فضرب به عجز بغلته . قال أبو العباس و عروة بن حدير هذا من النفر الذين نجوا من حرب النهروان فلم يزل باقيا مدة من أيام معاوية ثم أتي به زياد و معه مولى له فسأله عن أبي بكر و عمر فقال خيرا فقال له فما تقول في أمير المؤمنين عثمان و في أبي تراب فتولى عثمان ست سنين من خلافته ثم شهد عليه بالكفر و فعل في أمر علي ع مثل ذلك إلى أن حكم ثم شهد عليه بالكفر ثم سأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا ثم سأله عن نفسه فقال له أولك لزنية و آخرك لدعوة و أنت بعد عاص لربك فأمر به فضربت عنقه ثم دعا مولاه فقال له صف لي أموره قال أ أطنب أم أختصر قال بل اختصر قال ما أتيته بطعام بنهار قط و لا فرشت له فراشا بليل قط . قال أبو العباس و سبب تسميتهم الحرورية أن عليا ع لما ناظرهم بعد مناظرة ابن عباس إياهم كان فيما قال لهم أ لا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم إن هذه مكيدة و وهن و إنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لأتوني و سألوني التحكيم أ فتعلمون أن أحدا كان أكره للتحكيم مني قالوا صدقت قال فهل تعلمون أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه فاشترطت أن حكمهما نافذ ما حكما
[ 275 ]
(105/8)

بحكم الله فمتى خالفاه فأنا و أنتم من ذلك برآء و أنتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني قالوا اللهم نعم قال و كان معهم في ذلك الوقت ابن الكواء قال و هذا من قبل أن يذبحوا عبد الله بن خباب و إنما ذبحوه في الفرقة الثانية بكسكر فقالوا له حكمت في دين الله برأينا و نحن مقرون بأنا كنا كفرنا و لكنا الآن تائبون فأقر بمثل ما أقررنا به و تب ننهض معك إلى الشام فقال أ ما تعلمون أن الله تعالى قد أمر بالتحكيم في شقاق بين الرجل و امرأته فقال سبحانه فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها و في صيد أصيب كأرنب يساوي نصف درهم فقال يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فقالوا له فإن عمرا لما أبى عليك أن تقول في كتابك هذا ما كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين محوت اسمك من الخلافة و كتبت علي بن أبي طالب فقد خلعت نفسك فقال لي في رسول الله ص عليه أسوة حين أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب هذا كتاب كتبه محمد رسول الله ص و سهيل بن عمرو و قال له لو أقررت بأنك رسول الله ما خالفتك و لكني أقدمك لفضلك فاكتب محمد بن عبد الله فقال لي يا علي امح رسول الله فقلت يا رسول الله لا تشجعني نفسي على محو اسمك من النبوة قال فقضى عليه فمحاه بيده ثم قال اكتب محمد بن عبد الله ثم تبسم إلي و قال يا علي أما إنك ستسام مثلها فتعطي فرجع معه منهم ألفان من حروراء و قد كانوا تجمعوا بها فقال لهم علي ما نسميكم ثم قال أنتم الحرورية لاجتماعكم بحروراء و روى جميع أهل السير كافة أن عليا ع لما طحن القوم طلب ذا الثدية طلبا
[ 276 ]
(105/9)

شديدا و قلب القتلى ظهرا لبطن فلم يقدر عليه فساءه ذلك و جعل يقول و الله ما كذبت و لا كذبت اطلبوا الرجل و إنه لفي القوم فلم يزل يتطلبه حتى وجده و هو رجل مخدج اليد كأنها ثدي في صدره . و روى إبراهيم بن ديزيل في كتاب صفين عن الأعمش عن زيد بن وهب قال لما شجرهم علي ع بالرماح قال اطلبوا ذا الثدية فطلبوه طلبا شديدا حتى وجدوه في وهدة من الأرض تحت ناس من القتلى فأتي به و إذا رجل على ثديه مثل سبلات السنور فكبر علي ع و كبر الناس معه سرورا بذلك . و روى أيضا عن مسلم الضبي عن حبة العرني قال كان رجلا أسود منتن الريح له ثدي كثدي المرأة إذا مدت كانت بطول اليد الأخرى و إذا تركت اجتمعت و تقلصت و صارت كثدي المرأة عليها شعرات مثل شوارب الهرة فلما وجدوه قطعوا يده و نصبوها على رمح ثم جعل علي ع ينادي صدق الله و بلغ رسوله لم يزل يقول ذلك هو و أصحابه بعد العصر إلى أن غربت الشمس أو كادت . و روى ابن ديزيل أيضا قال لما عيل صبر علي ع في طلب المخدج قال ائتوني ببغلة رسول الله ص فركبها و اتبعه الناس فرأى القتلى و يقول اقلبوا فيقلبون قتيلا عن قتيل حتى استخرجوه فسجد علي ع . و روى كثير من الناس أنه لما دعا بالبغلة ليركبها قال ائتوني بها فإنها هادئة فوقفت به على المخدج فأخرجه من تحت قتلى كثيرين . و روى العوام بن حوشب عن أبيه عن جده يزيد بن رويم قال قال علي ع
[ 277 ]
(105/10)

يقتل اليوم أربعة آلاف من الخوارج أحدهم ذو الثدية فلما طحن القوم و رام استخراج ذي الثدية فأتبعه أمرني أن أقطع له أربعة آلاف قصبة و ركب بغلة رسول الله ص و قال اطرح على كل قتيل منهم قصبة فلم أزل كذلك و أنا بين يديه و هو راكب خلفي و الناس يتبعونه حتى بقيت في يدي واحدة فنظرت إليه و إذا وجهه أربد و إذا هو يقول و الله ما كذبت و لا كذبت فإذا خرير ماء عند موضع دالية فقال فتش هذا ففتشته فإذا قتيل قد صار في الماء و إذا رجله في يدي فجذبتها و قلت هذه رجل إنسان فنزل عن البغلة مسرعا فجذب الرجل الأخرى و جررناه حتى صار على التراب فإذا هو المخدج فكبر علي ع بأعلى صوته ثم سجد فكبر الناس كلهم .
و قد روى كثير من المحدثين أن النبي ص قال لأصحابه يوما إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فقال أبو بكر أنا يا رسول الله فقال لا فقال عمر أنا يا رسول الله فقال لا بل خاصف النعل و أشار إلى علي ع و قال أبو العباس في الكامل يقال إن أول من لفظ بالحكومة و لم يشد بها رجل من بني سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر من بني صريم يقال له الحجاج بن عبد الله و يعرف بالبرك و هو الذي ضرب آخرا معاوية على أليته يقال إنه لما سمع بذكر الحكمين قال أ يحكم أمير المؤمنين الرجال في دين الله لا حكم إلا لله فسمعه سامع فقال طعن و الله فأنفذ . قال أبو العباس و أول من حكم بين الصفين رجل من بني يشكر بن بكر
[ 278 ]
بن وائل كان من أصحاب علي ع فحمل على رجل منهم فقتله غيلة ثم مرق بين الصفين يحكم و حمل على أصحاب معاوية فكثروه فرجع إلى ناحية علي ع فخرج إليه رجل من همدان فقتله فقال شاعر همدان
و ما كان أغنى اليشكري عن التي
تصلى بها جمرا من النار حاميا
غداة ينادي و الرماح تنوشه
خلعت عليا بادئا و معاويا
(105/11)

قال أبو العباس و قد روى المحدثون أن رجلا تلا بحضرة علي ع قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً فقال علي ع أهل حروراء منهم
قال أبو العباس و من شعر أمير المؤمنين ع الذي لا اختلاف فيه أنه قاله و كان يردده أنهم لما ساموه أنه يقر بالكفر و يتوب حتى يسيروا معه إلى الشام فقال أ بعد صحبة رسول الله ص و التفقه في الدين أرجع كافرا ثم قال
يا شاهد الله علي فاشهد
أني على دين النبي أحمد
من شك في الله فإني مهتد
و ذكر أبو العباس أيضا في الكامل أن عليا ع في أول خروج القوم عليه دعا صعصعة بن صوحان العبدي و قد كان وجهه إليهم و زياد بن النضر الحارثي مع عبد الله بن عباس فقال لصعصعة بأي القوم رأيتهم أشد إطافة قال بيزيد بن قيس الأرحبي فركب علي ع إلى حروراء فجعل يتخللهم حتى صار إلى مضرب يزيد بن قيس فصلى فيه ركعتين ثم خرج فاتكأ على قوسه و أقبل
[ 279 ]
(105/12)

على الناس فقال هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة ثم كلمهم و ناشدهم فقالوا إنا أذنبنا ذنبا عظيما بالتحكيم و قد تبنا فتب إلى الله كما تبنا نعد لك فقال علي ع أنا أستغفر الله من كل ذنب فرجعوا معه و هم ستة آلاف فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن عليا ع رجع عن التحكيم و رآه ضلالا و قالوا إنما ينتظر أمير المؤمنين أن يسمن الكراع و تجبى الأموال ثم ينهض بنا إلى الشام فأتى الأشعث عليا ع فقال يا أمير المؤمنين إن الناس قد تحدثوا أنك رأيت الحكومة ضلالا و الإقامة عليها كفرا فقام علي ع يخطب فقال من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب و من رآها ضلالا فقد ضل فخرجت حينئذ الخوارج من المسجد فحكمت . قلت كل فساد كان في خلافة علي ع و كل اضطراب حدث فأصله الأشعث و لو لا محاقته أمير المؤمنين ع في معنى الحكومة في هذه المرة لم تكن حرب النهروان و لكان أمير المؤمنين ع ينهض بهم إلى معاوية و يملك الشام فإنه ص حاول أن يسلك معهم مسلك التعريض و المواربة
و في المثل النبوي صلوات الله على قائله الحرب خدعة و ذاك أنهم قالوا له تب إلى الله
[ 280 ]
(105/13)

مما فعلت كما تبنا ننهض معك إلى حرب أهل الشام فقال لهم كلمة مجملة مرسلة يقولها الأنبياء و المعصومون و هي قوله أستغفر الله من كل ذنب فرضوا بها و عدوها إجابة لهم إلى سؤلهم وصفت له ع نياتهم و استخلص بها ضمائرهم من غير أن تتضمن تلك الكلمة اعترافا بكفر أو ذنب فلم يتركه الأشعث و جاء إليه مستفسرا و كاشفا عن الحال و هاتكا ستر التورية و الكناية و مخرجا لها من ظلمة الإجمال و ستر الحيلة إلى تفسيرها بما يفسد التدبير و يوغر الصدور و يعيد الفتنة و لم يستفسره ع عنها إلا بحضور من لا يمكنه أن يجعلها معه هدنة على دخن و لا ترقيقا عن صبوح و ألجأه بتضييق الخناق عليه إلى أن يكشف ما في نفسه و لا يترك الكلمة على احتمالها و لا يطويها على غرها فخطب بما صدع به عن صورة ما عنده مجاهرة فانتقض ما دبره و عادت الخوارج إلى شبهتها الأولى و راجعوا التحكيم و المروق و هكذا الدول التي تظهر فيها أمارات الانقضاء و الزوال يتاح لها أمثال الأشعث من أولي الفساد في الأرض سُنَّةَ اَللَّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللَّهِ تَبْدِيلاً قال أبو العباس ثم مضى القوم إلى النهروان و قد كانوا أرادوا المضي إلى المدائن فمن طريف أخبارهم أنهم أصابوا في طريقهم مسلما و نصرانيا فقتلوا المسلم لأنه عندهم كافر إذ كان على خلاف معتقدهم و استوصوا بالنصراني و قالوا احفظوا ذمة نبيكم
[ 281 ]
(105/14)

قال أبو العباس و نحو ذلك أن واصل بن عطاء رحمه الله تعالى أقبل في رفقة فأحسوا بالخوارج فقال واصل لأهل الرفقة إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا و دعوني و إياهم و كانوا قد أشرفوا على العطب فقالوا شأنك فخرج إليهم فقالوا ما أنت و أصحابك فقال قوم مشركون مستجيرون بكم ليسمعوا كلام الله و يفهموا حدوده قالوا قد أجرناكم قال فعلمونا فجعلوا يعلمونهم أحكامهم و يقول واصل قد قبلت أنا و من معي قالوا فامضوا مصاحبين فقد صرتم إخواننا فقال بل تبلغوننا مأمننا لأن الله تعالى يقول وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اَللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ قال فينظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا ذاك لكم فساروا معهم بجمعهم حتى أبلغوهم المأمن . قال أبو العباس و لقيهم عبد الله بن خباب في عنقه مصحف على حمار و معه امرأته و هي حامل فقالوا له إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا بقتلك فقال لهم ما أحياه القرآن فأحيوه و ما أماته فأميتوه فوثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فيه فصاحوا به فلفظها تورعا و عرض لرجل منهم خنزير فضربه فقتله فقالوا هذا فساد في الأرض و أنكروا قتل الخنزير ثم قالوا لابن خباب حدثنا عن أبيك
فقال إني سمعت أبي يقول سمعت رسول الله ص يقول ستكون بعدي فتنة
[ 282 ]
(105/15)

يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه يمسي مؤمنا و يصبح كافرا فكن عبد الله المقتول و لا تكن القاتل قالوا فما تقول في أبي بكر و عمر فأثنى خيرا قالوا فما تقول في علي قبل التحكيم و في عثمان في السنين الست الأخيرة فأثنى خيرا قالوا فما تقول في علي بعد التحكيم و الحكومة قال إن عليا أعلم بالله و أشد توقيا على دينه و أنفذ بصيرة فقالوا إنك لست تتبع الهدى إنما تتبع الرجال على أسمائهم ثم قربوه إلى شاطئ النهر فأضجعوه فذبحوه . قال أبو العباس و ساوموا رجلا نصرانيا بنخلة له فقال هي لكم فقالوا ما كنا لنأخذها إلا بثمن فقال وا عجباه أ تقتلون مثل عبد الله بن خباب و لا تقبلون جنا نخلة إلا بثمن . و روى أبو عبيدة معمر بن المثنى قال طعن واحد من الخوارج يوم النهروان فمشى في الرمح و هو شاهر سيفه إلى أن وصل إلى طاعنه فضربه فقتله و هو يقرأ وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى . و روى أبو عبيدة أيضا قال استنطقهم علي ع بقتل عبد الله بن خباب فأقروا به فقال انفردوا كتائب لأسمع قولكم كتيبة كتيبة فتكتبوا كتائب و أقرت كل كتيبة بمثل ما أقرت به الأخرى من قتل ابن خباب و قالوا و لنقتلنك كما قتلناه فقال علي و الله لو أقر أهل الدنيا كلهم بقتله هكذا و أنا أقدر على قتلهم به لقتلتهم ثم التفت إلى أصحابه فقال لهم شدوا عليهم فأنا أول من يشد عليهم و حمل
[ 283 ]
بذي الفقار حملة منكرة ثلاث مرات كل حملة يضرب به حتى يعوج متنه ثم يخرج فيسويه بركبتيه ثم يحمل به حتى أفناهم .
و روى محمد بن حبيب قال خطب علي ع الخوارج يوم النهر فقال لهم نحن أهل بيت النبوة و موضع الرسالة و مختلف الملائكة و عنصر الرحمة و معدن العلم و الحكمة نحن أفق الحجاز بنا يلحق البطي ء و إلينا يرجع التائب أيها القوم إني نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأهضام هذا الوادي إلى آخر الفصل
[ 284 ]
(105/16)

37 ـ و من كلام له ع يجري مجرى الخطبة
فَقُمْتُ بِالْأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا وَ تَطَلَّعْتُ حِينَ تَقَبَّعُوا وَ نَطَقْتُ حِينَ تَعْتَعُوا [ تَمْنَعُوا تَقَبَّعُوا ] وَ مَضَيْتُ بِنُورِ اَللَّهِ حِينَ وَقَفُوا وَ كُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً وَ أَعْلاَهُمْ فَوْتاً فَطِرْتُ بِعِنَانِهَا وَ اِسْتَبْدَدْتُ بِرِهَانِهَا كَالْجَبَلِ لاَ تُحَرِّكُهُ اَلْقَوَاصِفُ وَ لاَ تُزِيلُهُ اَلْعَوَاصِفُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيَّ مَهْمَزٌ وَ لاَ لِقَائِلٍ فِيَّ مَغْمَزٌ اَلذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ اَلْحَقَّ لَهُ وَ اَلْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ اَلْحَقَّ مِنْهُ رَضِينَا عَنِ اَللَّهِ قَضَاءَهُ وَ سَلَّمْنَاهُ لِلَّهِ أَمْرَهُ أَ تَرَانِي أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ ص وَ اَللَّهِ لَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ فَلاَ أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ فَنَظَرْتُ فِي أَمْرِي فَإِذَا طَاعَتِي قَدْ سَبَقَتْ بَيْعَتِي وَ إِذَا اَلْمِيثَاقُ فِي عُنُقِي لِغَيْرِي هذه فصول أربعة لا يمتزج بعضها ببعض و كل كلام منها ينحو به أمير المؤمنين ع نحوا غير ما ينحوه بالآخر و إنما الرضي رحمه الله تعالى التقطها من كلام لأمير المؤمنين ع طويل منتشر قاله بعد وقعة النهروان ذكر فيه حاله منذ توفي رسول الله ص
[ 285 ]
(106/1)

و إلى آخر وقت فجعل الرضي رحمه الله تعالى ما التقطه منه سردا و صار عند السامع كأنه يقصد به مقصدا واحدا . فالفصل الأول و هو من أول الكلام إلى قوله و استبددت برهانها يذكر فيه مقاماته في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أيام أحداث عثمان و كون المهاجرين كلهم لم ينكروا و لم يواجهوا عثمان بما كان يواجهه به و ينهاه عنه فهذا هو معنى قوله فقمت بالأمر حين فشلوا أي قمت بإنكار المنكر حين فشل أصحاب محمد ص عنه و الفشل الخور و الجبن . قال و نطقت حين تعتعوا يقال تعتع فلان إذا تردد في كلامه من عي أو حصر قوله و تطلعت حين تقبعوا امرأة طلعة قبعة تطلع ثم تقبع رأسها أي تدخله كما يقبع القنفذ يدخل برأسه في جلده و قد تقبع الرجل أي اختبأ و ضده تطلع . قوله و كنت أخفضهم صوتا و أعلاهم فوتا يقول علوتهم و فتهم و شأوتهم سبقا و أنا مع ذلك خافض الصوت يشير إلى التواضع و نفي التكبر . و قوله فطرت بعنانها و استبددت برهانها يقول سبقتهم و هذا الكلام استعارة من مسابقة خيل الحلبة و استبددت بالرهان أي انفردت بالخطر الذي وقع التراهن عليه . الفصل الثاني فيه ذكر حاله ع في الخلافة بعد عثمان يقول كنت لما وليت الأمر كالجبل لا تحركه القواصف يعني الرياح الشديدة و مثله العواصف . و المهمز موضع الهمز و هو العيب و كذاك المغمز .
[ 286 ]
(106/2)

ثم قال الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له و القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه هذا آخر الفصل الثاني يقول الذليل المظلوم أقوم بإعزازه و نصره و أقوي يده إلى أن آخذ الحق له ثم يعود بعد ذلك إلى الحالة التي كان عليها قبل أن أقوم بإعزازه و نصره و القوي الظالم أستضعفه و أقهره و أذله إلى أن آخذ الحق منه ثم يعود إلى الحالة التي كان عليها قبل أن أهتضمه لاستيفاء الحق . الفصل الثالث من قوله رضينا عن الله قضاءه إلى قوله فلا أكون أول من كذب عليه هذا كلام قاله ع لما تفرس في قوم من عسكره أنهم يتهمونه فيما يخبرهم به عن النبي ص من أخبار الملاحم و الغائبات و قد كان شك منهم جماعة في أقواله و منهم من واجهه بالشك و التهمة
(106/3)

الأخبار الواردة عن معرفة الإمام علي بالأمور الغيبية
روى ابن هلال الثقفي في كتاب الغارات عن زكريا بن يحيى العطار عن فضيل عن محمد بن علي قال لما قال علي ع سلوني قبل أن تفقدوني فو الله لا تسألونني عن فئة تضل مائة و تهدي مائة إلا أنبأتكم بناعقتها و سائقتها قام إليه رجل فقال أخبرني بما في رأسي و لحيتي من طاقة شعر فقال له علي ع و الله لقد حدثني خليلي أن على كل طاقة شعر من رأسك ملكا يلعنك و أن على كل طاقة شعر من لحيتك شيطانا يغويك و أن في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله ص و كان ابنه قاتل الحسين ع يومئذ طفلا يحبو و هو سنان بن أنس النخعي
و روى الحسن بن محبوب عن ثابت الثمالي عن سويد بن غفلة أن عليا ع خطب ذات يوم فقام رجل من تحت منبره فقال يا أمير المؤمنين إني مررت بوادي
[ 287 ]
القرى فوجدت خالد بن عرفطة قد مات فاستغفر له فقال ع و الله ما مات و لا يموت حتى يقود جيش ضلالة صاحب لوائه حبيب بن حمار فقام رجل آخر من تحت المنبر فقال يا أمير المؤمنين أنا حبيب بن حمار و إني لك شيعة و محب فقال أنت حبيب بن حمار قال نعم فقال له ثانية و الله إنك لحبيب بن حمار فقال إي و الله قال أما و الله إنك لحاملها و لتحملنها و لتدخلن بها من هذا الباب و أشار إلى باب الفيل بمسجد الكوفة قال ثابت فو الله ما مت حتى رأيت ابن زياد و قد بعث عمر بن سعد إلى الحسين بن علي ع و جعل خالد بن عرفطة على مقدمته و حبيب بن حمار صاحب رايته فدخل بها من باب الفيل .
(107/1)

و روى محمد بن إسماعيل بن عمرو البجلي قال أخبرنا عمرو بن موسى الوجيهي عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث قال قال علي ع على المنبر ما أحد جرت عليه المواسي إلا و قد أنزل الله فيه قرآنا فقام إليه رجل من مبغضيه فقال له فما أنزل الله تعالى فيك فقام الناس إليه يضربونه فقال دعوه أ تقرأ سورة هود قال نعم قال فقرأ ع أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ثم قال الذي كان على بينة من ربه محمد ص و الشاهد الذي يتلوه أنا
و روى عثمان بن سعيد عن عبد الله بن بكير عن حكيم بن جبير قال خطب علي ع فقال في أثناء خطبته أنا عبد الله و أخو رسوله لا يقولها أحد قبلي و لا بعدي إلا كذب ورثت نبي الرحمة و نكحت سيدة نساء هذه الأمة و أنا خاتم الوصيين
[ 288 ]
فقال رجل من عبس و من لا يحسن أن يقول مثل هذا فلم يرجع إلى أهله حتى جن و صرع فسألوهم هل رأيتم به عرضا قبل هذا قالوا ما رأينا به قبل هذا عرضا .
(107/2)

و روى محمد بن جبلة الخياط عن عكرمة عن يزيد الأحمسي أن عليا ع كان جالسا في مسجد الكوفة و بين يديه قوم منهم عمرو بن حريث إذ أقبلت امرأة مختمرة لا تعرف فوقفت فقالت لعلي ع يا من قتل الرجال و سفك الدماء و أيتم الصبيان و أرمل النساء فقال ع و إنها لهي هذه السلقلقة الجلعة المجعة و إنها لهي هذه شبيهة الرجال و النساء التي ما رأت دما قط قال فولت هاربة منكسة رأسها فتبعها عمرو بن حريث فلما صارت بالرحبة قال لها و الله لقد سررت بما كان منك اليوم إلى هذا الرجل فادخلي منزلي حتى أهب لك و أكسوك فلما دخلت منزله أمر جواريه بتفتيشها و كشفها و نزع ثيابها لينظر صدقه فيما قاله عنها فبكت و سألته ألا يكشفها و قالت أنا و الله كما قال لي ركب النساء و أنثيان كأنثي الرجال و ما رأيت دما قط فتركها و أخرجها ثم جاء إلى علي ع فأخبره فقال إن خليلي رسول الله ص أخبرني بالمتمردين علي من الرجال و المتمردات من النساء إلى أن تقوم الساعة قلت السلقلقة السليطة و أصله من السلق و هو الذئب و السلقة الذئبة و الجلعة المجعة البذيئة اللسان و الركب منبت العانة .
و روى عثمان بن سعيد عن شريك بن عبد الله قال لما بلغ عليا ع أن الناس يتهمونه فيما يذكره من تقديم النبي ص و تفضيله إياه على الناس قال أنشد الله من بقي ممن لقي رسول الله ص و سمع مقاله في يوم غدير خم إلا قام
[ 289 ]
فشهد بما سمع فقام ستة ممن عن يمينه من أصحاب رسول الله ص و ستة ممن على شماله من الصحابة أيضا فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله ص يقول ذلك اليوم و هو رافع بيدي علي ع من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله و أحب من أحبه و أبغض من أبغضه
(107/3)

و روى عثمان بن سعيد عن يحيى التيمي عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء قال قام أعشى همدان و هو غلام يومئذ حدث إلى علي ع و هو يخطب و يذكر الملاحم فقال يا أمير المؤمنين ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة فقال علي ع إن كنت آثما فيما قلت يا غلام فرماك الله بغلام ثقيف ثم سكت فقام رجال فقالوا و من غلام ثقيف يا أمير المؤمنين قال غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك لله حرمة إلا انتهكها يضرب عنق هذا الغلام بسيفه فقالوا كم يملك يا أمير المؤمنين قال عشرين إن بلغها قالوا فيقتل قتلا أم يموت موتا قال بل يموت حتف أنفه بداء البطن يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه . قال إسماعيل بن رجاء فو الله لقد رأيت بعيني أعشى باهلة و قد أحضر في جملة الأسرى الذين أسروا من جيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بين يدي الحجاج فقرعه و وبخه و استنشده شعره الذي يحرض فيه عبد الرحمن على الحرب ثم ضرب عنقه في ذلك المجلس .
و روى محمد بن علي الصواف عن الحسين بن سفيان عن أبيه عن شمير بن سدير الأزدي قال قال علي ع لعمرو بن الحمق الخزاعي أين نزلت يا عمرو قال
[ 290 ]
(107/4)

في قومي قال لا تنزلن فيهم قال فأنزل في بني كنانة جيراننا قال لا قال فأنزل في ثقيف قال فما تصنع بالمعرة و المجرة قال و ما هما قال عنقان من نار يخرجان من ظهر الكوفة يأتي أحدهما على تميم و بكر بن وائل فقلما يفلت منه أحد و يأتي العنق الآخر فيأخذ على الجانب الآخر من الكوفة فقل من يصيب منهم إنما يدخل الدار فيحرق البيت و البيتين قال فأين أنزل قال انزل في بني عمرو بن عامر من الأزد قال فقال قوم حضروا هذا الكلام ما نراه إلا كاهنا يتحدث بحديث الكهنة فقال يا عمرو إنك المقتول بعدي و إن رأسك لمنقول و هو أول رأس ينقل في الإسلام و الويل لقاتلك أما إنك لا تنزل بقوم إلا أسلموك برمتك إلا هذا الحي من بني عمرو بن عامر من الأزد فإنهم لن يسلموك و لن يخذلوك قال فو الله ما مضت إلا أيام حتى تنقل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في بعض أحياء العرب خائفا مذعورا حتى نزل في قومه من بني خزاعة فأسلموه فقتل و حمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام و هو أول رأس حمل في الإسلام من بلد إلى بلد .
و روى إبراهيم بن ميمون الأزدي عن حبة العرني قال كان جويرية بن مسهر العبدي صالحا و كان لعلي بن أبي طالب صديقا و كان علي يحبه و نظر يوما إليه و هو يسير فناداه يا جويرية الحق بي فإني إذا رأيتك هويتك
قال إسماعيل بن أبان فحدثني الصباح عن مسلم عن حبة العرني قال سرنا مع علي ع يوما فالتفت فإذا جويرية خلفه بعيدا فناداه يا جويرية الحق بي لا أبا لك أ لا تعلم أني أهواك و أحبك قال فركض نحوه فقال له إني محدثك بأمور فاحفظها ثم اشتركا في الحديث سرا فقال له جويرية يا أمير المؤمنين إني رجل نسي فقال له إني أعيد عليك
[ 291 ]
(107/5)

الحديث لتحفظه ثم قال له في آخر ما حدثه إياه يا جويرية أحبب حبيبنا ما أحبنا فإذا أبغضنا فأبغضه و أبغض بغيضنا ما أبغضنا فإذا أحبنا فأحبه قال فكان ناس ممن يشك في أمر علي ع يقولون أ تراه جعل جويرية وصيه كما يدعي هو من وصية رسول الله ص قال يقولون ذلك لشدة اختصاصه له حتى دخل على علي ع يوما و هو مضطجع و عنده قوم من أصحابه فناداه جويرية أيها النائم استيقظ فلتضربن علي رأسك ضربة تخضب منها لحيتك قال فتبسم أمير المؤمنين ع قال و أحدثك يا جويرية بأمرك أما و الذي نفسي بيده لتعتلن إلى العتل الزنيم فليقطعن يدك و رجلك و ليصلبنك تحت جذع كافر قال فو الله ما مضت إلا أيام على ذلك حتى أخذ زياد جويرية فقطع يده و رجله و صلبه إلى جانب جذع ابن مكعبر و كان جذعا طويلا فصلبه على جذع قصير إلى جانبه
و روى إبراهيم في كتاب الغارات عن أحمد بن الحسن الميثمي قال كان ميثم التمار مولى علي بن أبي طالب ع عبدا لامرأة من بني أسد فاشتراه علي ع منها و أعتقه و قال له ما اسمك فقال سالم فقال إن رسول الله ص أخبرني أن اسمك الذي سماك به أبوك في العجم ميثم فقال صدق الله و رسوله و صدقت يا أمير المؤمنين فهو و الله اسمي قال فارجع إلى اسمك و دع سالما فنحن نكنيك به فكناه أبا سالم قال و قد كان قد أطلعه علي ع على علم كثير و أسرار خفية من أسرار الوصية فكان ميثم يحدث ببعض ذلك فيشك فيه قوم من أهل الكوفة و ينسبون عليا ع في ذلك إلى المخرقة و الإيهام و التدليس حتى قال له يوما بمحضر من خلق كثير من أصحابه و فيهم الشاك و المخلص يا ميثم
[ 292 ]
(107/6)

إنك تؤخذ بعدي و تصلب فإذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك و فمك دما حتى تخضب لحيتك فإذا كان اليوم الثالث طعنت بحربة يقضى عليك فانتظر ذلك و الموضع الذي تصلب فيه على باب دار عمرو بن حريث إنك لعاشر عشرة أنت أقصرهم خشبة و أقربهم من المطهرة يعني الأرض و لأرينك النخلة التي تصلب على جذعها ثم أراه إياها بعد ذلك بيومين و كان ميثم يأتيها فيصلي عندها و يقول بوركت من نخلة لك خلقت و لي نبت فلم يزل يتعاهدها بعد قتل علي ع حتى قطعت فكان يرصد جذعها و يتعاهده و يتردد إليه و يبصره و كان يلقى عمرو بن حريث فيقول له إني مجاورك فأحسن جواري فلا يعلم عمرو ما يريد فيقول له أ تريد أن تشتري دار ابن مسعود أم دار ابن حكيم . قال و حج في السنة التي قتل فيها فدخل على أم سلمة رضي الله عنها فقالت له من أنت قال عراقي فاستنسبته فذكر لها أنه مولى علي بن أبي طالب فقالت أنت هيثم قال بل أنا ميثم فقالت سبحان الله و الله لربما سمعت رسول الله ص يوصي بك عليا في جوف الليل فسألها عن الحسين بن علي فقالت هو في حائط له قال أخبريه أني قد أحببت السلام عليه و نحن ملتقون عند رب العالمين إن شاء الله و لا أقدر اليوم على لقائه و أريد الرجوع فدعت بطيب فطيبت لحيته فقال لها أما إنها ستخضب بدم فقالت من أنبأك هذا قال أنبأني سيدي فبكت أم سلمة و قالت له إنه ليس بسيدك وحدك هو سيدي و سيد المسلمين ثم ودعته .
[ 293 ]
(107/7)

فقدم الكوفة فأخذ و أدخل على عبيد الله بن زياد و قيل له هذا كان من آثر الناس عند أبي تراب قال ويحكم هذا الأعجمي قالوا نعم فقال له عبيد الله أين ربك قال بالمرصاد قال قد بلغني اختصاص أبي تراب لك قال قد كان بعض ذلك فما تريد قال و إنه ليقال إنه قد أخبرك بما سيلقاك قال نعم إنه أخبرني قال ما الذي أخبرك أني صانع بك قال أخبرني أنك تصلبني عاشر عشرة و أنا أقصرهم خشبة و أقربهم من المطهرة قال لأخالفنه قال ويحك كيف تخالفه إنما أخبر عن رسول الله ص و أخبر رسول الله عن جبرائيل و أخبر جبرائيل عن الله فكيف تخالف هؤلاء أما و الله لقد عرفت الموضع الذي أصلب فيه أين هو من الكوفة و إني لأول خلق الله ألجم في الإسلام بلجام كما يلجم الخيل فحبسه و حبس معه المختار بن أبي عبيدة الثقفي فقال ميثم للمختار و هما في حبس ابن زياد إنك تفلت و تخرج ثائرا بدم الحسين ع فتقتل هذا الجبار الذي نحن في سجنه و تطأ بقدمك هذه على جبهته و خديه فلما دعا عبيد الله بن زياد بالمختار ليقتله طلع البريد بكتاب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد يأمره بتخلية سبيله و ذاك أن أخته كانت تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب فسألت بعلها أن يشفع فيه إلى يزيد فشفع فأمضى شفاعته و كتب بتخلية سبيل المختار على البريد فوافى البريد و قد أخرج ليضرب عنقه فأطلق و أما ميثم فأخرج بعده ليصلب و قال عبيد الله لأمضين حكم أبي تراب فيه فلقيه رجل فقال له ما كان أغناك عن هذا يا ميثم فتبسم و قال لها خلقت و لي غذيت فلما رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث فقال عمرو لقد كان يقول لي إني مجاورك فكان يأمر جاريته كل عشية أن تكنس تحت خشبته و ترشه و تجمر بالمجمر تحته فجعل ميثم يحدث بفضائل بني هاشم و مخازي
[ 294 ]
(107/8)

بني أمية و هو مصلوب على الخشبة فقيل لابن زياد قد فضحكم هذا العبد فقال ألجموه فألجم فكان أول خلق الله ألجم في الإسلام فلما كان في اليوم الثاني فاضت منخراه و فمه دما فلما كان في اليوم الثالث طعن بحربة فمات . و كان قتل ميثم قبل قدوم الحسين ع العراق بعشرة أيام . قال إبراهيم و حدثني إبراهيم بن العباس النهدي حدثني مبارك البجلي عن أبي بكر بن عياش قال حدثني المجالد عن الشعبي عن زياد بن النضر الحارثي قال كنت عند زياد و قد أتي برشيد الهجري و كان من خواص أصحاب علي ع فقال له زياد ما قال خليلك لك إنا فاعلون بك قال تقطعون يدي و رجلي و تصلبونني فقال زياد أما و الله لأكذبن حديثه خلوا سبيله فلما أراد أن يخرج قال ردوه لا نجد شيئا أصلح مما قال لك صاحبك إنك لا تزال تبغي لنا سوءا إن بقيت اقطعوا يديه و رجليه فقطعوا يديه و رجليه و هو يتكلم فقال أصلبوه خنقا في عنقه فقال رشيد قد بقي لي عندكم شي ء ما أراكم فعلتموه فقال زياد اقطعوا لسانه فلما أخرجوا لسانه ليقطع قال نفسوا عني أتكلم كلمة واحدة فنفسوا عنه فقال هذا و الله تصديق خبر أمير المؤمنين أخبرني بقطع لساني فقطعوا لسانه و صلبوه . و روى أبو داود الطيالسي عن سليمان بن رزيق عن عبد العزيز بن صهيب قال حدثني أبو العالية قال حدثني مزرع صاحب علي بن أبي طالب ع أنه قال ليقبلن جيش حتى إذا كان بالبيداء خسف بهم قال أبو العالية فقلت له إنك لتحدثني بالغيب فقال احفظ ما أقوله لك فإنما حدثني به الثقة علي بن أبي طالب و حدثني أيضا شيئا آخر ليؤخذن رجل فليقتلن و ليصلبن بين شرفتين من شرف المسجد فقلت له إنك لتحدثني بالغيب فقال احفظ ما أقول لك قال أبو العالية فو الله ما أتت
[ 295 ]
علينا جمعة حتى أخذ مزرع فقتل و صلب بين شرفتين من شرف المسجد . قلت حديث الخسف بالجيش قد خرجه البخاري و مسلم في الصحيحين
(107/9)

عن أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله ص يقول يعوذ قوم بالبيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم فقلت يا رسول الله لعل فيهم المكره أو الكاره فقال يخسف بهم و لكن يحشرون أو قال يبعثون على نياتهم يوم القيامة قال فسئل أبو جعفر محمد بن علي أ هي بيداء من الأرض فقال كلا و الله إنها بيداء المدينة أخرج البخاري بعضه و أخرج مسلم الباقي . و روى محمد بن موسى العنزي قال كان مالك بن ضمرة الرؤاسي من أصحاب علي ع و ممن استبطن من جهته علما كثيرا و كان أيضا قد صحب أبا ذر فأخذ من علمه و كان يقول في أيام بني أمية اللهم لا تجعلني أشقى الثلاثة فيقال له و ما الثلاثة فيقول رجل يرمى من فوق طمار و رجل تقطع يداه و رجلاه و لسانه و يصلب و رجل يموت على فراشه فكان من الناس من يهزأ به و يقول هذا من أكاذيب أبي تراب . قال و كان الذي رمي به من طمار هانئ بن عروة و الذي قطع و صلب رشيد الهجري و مات مالك على فراشه . الفصل الرابع و هو من قوله فنظرت في أمري إلى آخر الكلام هذه كلمات
[ 296 ]
(107/10)

مقطوعة من كلام يذكر فيه حاله بعد وفاة رسول الله ص و أنه كان معهودا إليه ألا ينازع في الأمر و لا يثير فتنة بل يطلبه بالرفق فإن حصل له و إلا أمسك . هكذا كان يقول ع و قوله الحق و تأويل هذه الكلمات فنظرت فإذا طاعتي لرسول الله ص أي وجوب طاعتي فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه قد سبقت بيعتي للقوم أي وجوب طاعة رسول الله ص علي و وجوب امتثالي أمره سابق على بيعتي للقوم فلا سبيل لي إلى الامتناع من البيعة لأنه ص أمرني بها . و إذا الميثاق في عنقي لغيري أي رسول الله ص أخذ علي الميثاق بترك الشقاق و المنازعة فلم يحل لي أن أتعدى أمره أو أخالف نهيه . فإن قيل فهذا تصريح بمذهب الإمامية قيل ليس الأمر كذلك بل هذا تصريح بمذهب أصحابنا من البغداديين لأنهم يزعمون أنه الأفضل و الأحق بالإمامة و أنه لو لا ما يعلمه الله و رسوله من أن الأصلح للمكلفين من تقديم المفضول عليه لكان من تقدم عليه هالكا فرسول الله ص أخبره أن الإمامة حقه و أنه أولى بها من الناس أجمعين و أعلمه أن في تقديم غيره و صبره على التأخر عنها مصلحة للدين راجعة إلى المكلفين و أنه يجب عليه أن يمسك عن طلبها و يغضي عنها لمن هو دون مرتبته فامتثل ما أمره به رسول الله ص و لم يخرجه تقدم من تقدم عليه من كونه الأفضل و الأولى و الأحق و قد صرح شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى بهذا و صرح به تلامذته و قالوا لو نازع عقيب وفاة رسول الله ص و سل سيفه لحكمنا بهلاك كل
[ 297 ]
من خالفه و تقدم عليه كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه و لكنه مالك الأمر و صاحب الخلافة إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها و إذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عليها و حكمه في ذلك حكم رسول الله ص لأنه قد ثبت عنه
في الأخبار الصحيحة أنه قال علي مع الحق و الحق مع علي يدور حيثما دار
(107/11)

و قال له غير مرة حربك حربي و سلمك سلمي . و هذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي و به أقول
[ 298 ]
(107/12)

38 ـ و من خطبة له ع
وَ إِنَّمَا سُمِّيَتِ اَلشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِأَنَّهَا تُشْبِهُ اَلْحَقَّ فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اَللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اَلْيَقِينُ وَ دَلِيلُهُمْ سَمْتُ اَلْهُدَى وَ أَمَّا أَعْدَاءُ اَللَّهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا اَلضَّلاَلُ وَ دَلِيلُهُمُ اَلْعَمَى فَمَا يَنْجُو مِنَ اَلْمَوْتِ مَنْ خَافَهُ وَ لاَ يُعْطَى اَلْبَقَاءَ مَنْ أَحَبَّهُ هذان فصلان أحدهما غير ملتئم مع الآخر بل مبتور عنه و إنما الرضي رحمه الله تعالى كان يلتقط الكلام التقاطا و مراده أن يأتي بفصيح كلامه ع و ما يجري مجرى الخطابة و الكتابة فلهذا يقع في الفصل الواحد الكلام الذي لا يناسب بعضه بعضا و قد قال الرضي ذلك في خطبة الكتاب . أما الفصل الأول فهو الكلام في الشبهة و لما ذا سميت شبهة قال ع لأنها تشبه الحق و هذا هو محض ما يقوله المتكلمون و لهذا يسمون ما يحتج به أهل الحق دليلا و يسمون ما يحتج به أهل الباطل شبهة . قال فأما أولياء الله فضياؤهم في حل الشبهة اليقين و دليلهم سمت الهدى و هذا حق لأن من اعتبر مقدمات الشبهة و راعى الأمور اليقينية و طلب المقدمات المعلومة قطعا انحلت الشبهة و ظهر له فسادها من أين هو ثم قال و أما أعداء الله فدعاؤهم
[ 299 ]
(108/1)

الضلال و دليلهم العمى و هذا حق لأن المبطل ينظر في الشبهة لا نظر من راعى الأمور اليقينية و يحلل المقدمات إلى القضايا المعلومة بل يغلب عليه حب المذهب و عصبية أسلافه و إيثار نصره من قد ألزم بنصرته فذاك هو العمى و الضلال اللذان أشار أمير المؤمنين إليهما فلا تنحل الشبهة له و تزداد عقيدته فسادا و قد ذكرنا في كتبنا الكلامية الكلام في توليد النظر للعلم و أنه لا يولد الجهل . الفصل الثاني قوله فما ينجو من الموت من خافه و لا يعطى البقاء من أحبه هذا كلام أجنبي عما تقدم و هو مأخوذ من قوله تعالى قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ اَلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ و قوله أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ و قوله فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ
[ 300 ]
(108/2)

39 ـ و من خطبة له ع
مُنِيتُ بِمَنْ لاَ يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ وَ لاَ يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ لاَ أَبَا لَكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ أَ مَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَ لاَ حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً وَ أُنَادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً فَلاَ تَسْمَعُونَ لِي قَوْلاً وَ لاَ تُطِيعُونَ لِي أَمْراً حَتَّى تَكْشِفَ اَلْأُمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ اَلْمَسَاءَةِ فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَأْرٌ وَ لاَ يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ اَلْجَمَلِ اَلْأَسَرِّ وَ تَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ اَلنِّضْوِ اَلْأَدْبَرِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ مُتَذَائِبٌ ضَعِيفٌ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى اَلْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ قال الرضي رحمه الله قوله ع متذائب أي مضطرب من قولهم تذاءبت الريح أي اضطرب هبوبها و منه سمي الذئب ذئبا لاضطراب مشيته منيت أي بليت و تحمشكم تغضبكم أحمشه أي أغضبه و المستصرخ المستنصر و المتغوث القائل وا غوثاه .
[ 301 ]
و الجرجرة صوت يردده البعير في حنجرته و أكثر ما يكون ذلك عند الإعياء و التعب و الجمل الأسر الذي بكركرته دبرة و النضو البعير المهزول و الأدبر الذي به دبر و هو المعقور من القتب و غيره . هذا الكلام خطب به أمير المؤمنين ع في غارة النعمان بن بشير الأنصاري على عين التمر
(109/1)

أمر النعمان بن بشير مع علي و مالك بن كعب الأرحبي
ذكر صاحب الغارات أن النعمان بن بشير قدم هو و أبو هريرة على علي ع من عند معاوية بعد أبي مسلم الخولاني يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليقيدهم بعثمان لعل الحرب أن تطفأ و يصطلح الناس و إنما أراد معاوية أن يرجع مثل النعمان و أبي هريرة من عند علي ع إلى الناس و هم لمعاوية عاذرون و لعلي لائمون و قد علم معاوية أن عليا لا يدفع قتلة عثمان إليه فأراد أن يكون هذان يشهدان له عند أهل الشام بذلك و أن يظهر عذره فقال لهما ائتيا عليا فانشداه الله و سلاه بالله لما دفع إلينا قتلة عثمان فإنه قد آواهم و منعهم ثم لا حرب بيننا و بينه فإن أبى فكونوا شهداء الله عليه . و أقبلا على الناس فأعلماهم ذلك فأتيا إلى علي ع فدخلا عليه فقال له أبو هريرة يا أبا حسن إن الله قد جعل لك في الإسلام فضلا و شرفا أنت ابن عم محمد رسول الله ص و قد بعثنا إليك ابن عمك معاوية يسألك أمرا تسكن به هذه
[ 302 ]
(110/1)

الحرب و يصلح الله تعالى ذات البين أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمه فيقتلهم به و يجمع الله تعالى أمرك و أمره و يصلح بينكم و تسلم هذه الأمة من الفتنة و الفرقة ثم تكلم النعمان بنحو من ذلك . فقال لهما دعا الكلام في هذا حدثني عنك يا نعمان أنت أهدى قومك سبيلا يعني الأنصار قال لا قال فكل قومك قد اتبعني إلا شذاذا منهم ثلاثة أو أربعة أ فتكون أنت من الشذاذ فقال النعمان أصلحك الله إنما جئت لأكون معك و ألزمك و قد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام و رجوت أن يكون لي موقف اجتمع فيه معك و طمعت أن يجري الله تعالى بينكما صلحا فإذا كان غير ذلك رأيك فأنا ملازمك و كائن معك . فأما أبو هريرة فلحق بالشام و أقام النعمان عند علي ع فأخبر أبو هريرة معاوية بالخبر فأمره أن يعلم الناس ففعل و أقام النعمان بعده شهرا ثم خرج فارا من علي ع حتى إذا مر بعين التمر أخذه مالك بن كعب الأرحبي و كان عامل علي ع عليها فأراد حبسه و قال له ما مر بك بيننا قال إنما أنا رسول بلغت رسالة صاحبي ثم انصرفت فحبسه و قال كما أنت حتى أكتب إلى علي فيك فناشده و عظم عليه أن يكتب إلى علي فيه فأرسل النعمان إلى قرظة بن كعب الأنصاري و هو كاتب عين التمر يجبي خراجها لعلي ع فجاءه مسرعا فقال لمالك بن كعب خل سبيل ابن عمي يرحمك الله فقال يا قرظة اتق الله و لا تتكلم في هذا فإنه لو كان من عباد الأنصار و نساكهم لم يهرب من أمير المؤمنين إلى أمير المنافقين . فلم يزل به يقسم عليه حتى خلى سبيله و قال له يا هذا لك الأمان اليوم و الليلة
[ 303 ]
و غدا و الله إن أدركتك بعدها لأضربن عنقك فخرج مسرعا لا يلوي على شي ء و ذهبت به راحلته فلم يدر أين يتسكع من الأرض ثلاثة أيام لا يعلم أين هو فكان النعمان يحدث بعد ذلك يقول و الله ما علمت أين أنا حتى سمعت قول قائلة تقول و هي تطحن
شربت مع الجوزاء كأسا روية
و أخرى مع الشعرى إذا ما استقلت
معتقة كانت قريش تصونها
(110/2)

فلما استحلوا قتل عثمان حلت
فعلمت أني عند حي من أصحاب معاوية و إذا الماء لبني القين فعلمت أني قد انتهيت إلى الماء . ثم قدم على معاوية فخبره بما لقي و لم يزل معه مصاحبا لم يجاهد عليا و يتتبع قتلة عثمان حتى غزا الضحاك بن قيس أرض العراق ثم انصرف إلى معاوية و قد كان معاوية قال قبل ذلك بشهرين أو ثلاثة أ ما من رجل أبعث به بجريدة خيل حتى يغير على شاطئ الفرات فإن الله يرعب بها أهل العراق فقال له النعمان فابعثني فإن لي في قتالهم نية و هوى و كان النعمان عثمانيا قال فانتدب على اسم الله فانتدب و ندب معه ألفي رجل و أوصاه أن يتجنب المدن و الجماعات و ألا يغير إلا على مصلحة و أن يعجل الرجوع . فأقبل النعمان بن بشير حتى دنا من عين التمر و بها مالك بن كعب الأرحبي الذي جرى له معه ما جرى و مع مالك ألف رجل و قد أذن لهم فرجعوا إلى الكوفة فلم يبق معه إلا مائة أو نحوها فكتب مالك إلى علي ع أما بعد فإن النعمان بن بشير قد نزل بي في جمع كثيف فرأيك سددك الله تعالى و ثبتك و السلام .
فوصل الكتاب إلى علي ع فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال
[ 304 ]
(110/3)

اخرجوا هداكم الله إلى مالك بن كعب أخيكم فإن النعمان بن بشير قد نزل به في جمع من أهل الشام ليس بالكثير فانهضوا إلى إخوانكم لعل الله يقطع بكم من الكافرين طرفا ثم نزل . فلم يخرجوا فأرسل إلى وجوههم و كبرائهم فأمرهم أن ينهضوا و يحثوا الناس على المسير فلم يصنعوا شيئا و اجتمع منهم نفر يسير نحو ثلاثمائة فارس أو دونها فقام ع فقال ألا إني منيت بمن لا يطيع الفصل الذي شرحناه إلى آخره ثم نزل . فدخل منزله فقام عدي بن حاتم فقال هذا و الله الخذلان على هذا بايعنا أمير المؤمنين ثم دخل إليه فقال يا أمير المؤمنين إن معي من طيئ ألف رجل لا يعصونني فإن شئت أن أسير بهم سرت قال ما كنت لأعرض قبيلة واحدة من قبائل العرب للناس و لكن اخرج إلى النخيلة فعسكر بهم و فرض علي ع لكل رجل سبعمائة فاجتمع إليه ألف فارس عدا طيئا أصحاب عدي بن حاتم . و ورد على علي ع الخبر بهزيمة النعمان بن بشير و نصرة مالك بن كعب فقرأ الكتاب على أهل الكوفة و حمد الله و أثنى عليه ثم نظر إليهم و قال هذا بحمد الله و ذم أكثركم . فأما خبر مالك بن كعب مع النعمان بن بشير قال عبد الله بن حوزة الأزدي قال كنت مع مالك بن كعب حين نزل بنا النعمان بن بشير و هو في ألفين و ما نحن إلا مائة فقال لنا قاتلوهم في القرية و اجعلوا الجدر في ظهوركم و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة و اعلموا أن الله تعالى ينصر العشرة على المائة و المائة على الألف و القليل على الكثير ثم قال إن أقرب من هاهنا إلينا من شيعة أمير المؤمنين و أنصاره و عماله قرظة بن كعب
[ 305 ]
(110/4)

و مخنف بن سليم فاركض إليهما فأعلمهما حالنا و قل لهما فلينصرانا ما استطاعا فأقبلت أركض و قد تركته و أصحابه يرمون أصحاب ابن بشير بالنبل فمررت بقرظة فاستصرخته فقال إنما أنا صاحب خراج و ليس عندي من أعينه به فمضيت إلى مخنف بن سليم فأخبرته الخبر فسرح معي عبد الرحمن بن مخنف في خمسين رجلا و قاتل مالك بن كعب النعمان و أصحابه إلى العصر فأتيناه و قد كسر هو و أصحابه جفون سيوفهم و استقبلوا الموت فلو أبطأنا عنهم هلكوا فما هو إلا أن رآنا أهل الشام و قد أقبلنا عليهم فأخذوا ينكصون عنهم و يرتفعون و رآنا مالك و أصحابه فشدوا عليهم حتى دفعوهم عن القرية فاستعرضناهم فصرعنا منهم رجالا ثلاثة و ارتفع القوم عنا و ظنوا أن وراءنا مددا و لو ظنوا أنه ليس غيرنا لأقبلوا علينا و لأهلكونا و حال الليل بيننا و بينهم فانصرفوا إلى أرضهم و كتب مالك بن كعب إلى علي ع أما بعد فإنه نزل بنا النعمان بن بشير في جمع من أهل الشام كالظاهر علينا و كان عظم أصحابي متفرقين و كنا للذي كان منهم آمنين فخرجنا إليهم رجالا مصلتين فقاتلناهم حتى المساء و استصرخنا مخنف بن سليم فبعث إلينا رجالا من شيعة أمير المؤمنين و ولده فنعم الفتى و نعم الأنصار كانوا فحملنا على عدونا و شددنا عليهم فأنزل الله علينا نصره و هزم عدوه و أعز جنده و الحمد لله رب العالمين و السلام على أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته .
[ 306 ]
(110/5)

و روى محمد بن فرات الجرمي عن زيد بن علي ع قال قال علي ع في هذه الخطبة أيها الناس إني دعوتكم إلى الحق فتوليتم عني و ضربتكم بالدرة فأعييتموني أما إنه سيليكم بعدي ولاة لا يرضون عنكم بذلك حتى يعذبوكم بالسياط و بالحديد فأما أنا فلا أعذبكم بهما إنه من عذب الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة و آية ذلك أن يأتيكم صاحب اليمن حتى يحل بين أظهركم فيأخذ العمال و عمال العمال رجل يقال له يوسف بن عمرو و يقوم عند ذلك رجل منا أهل البيت فانصروه فإنه داع إلى الحق . قال و كان الناس يتحدثون أن ذلك الرجل هو زيد ع
[ 307 ]
(110/6)

40 ـ و من كلام له ع للخوارج لما سمع قولهم لا حكم إلا لله
قَالَ : كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ نَعَمْ إِنَّهُ لاَ حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ وَ لَكِنَّ هَؤُلاَءِ يَقُولُونَ لاَ إِمْرَةَ إِلاَّ لِلَّهِ وَ إِنَّهُ لاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ اَلْمُؤْمِنُ وَ يَسْتَمْتِعُ فِيهَا اَلْكَافِرُ وَ يُبَلِّغُ اَللَّهُ فِيهَا اَلْأَجَلَ وَ يُجْمَعُ بِهِ اَلْفَيْ ءُ وَ يُقَاتَلُ بِهِ اَلْعَدُوُّ وَ تَأْمَنُ بِهِ اَلسُّبُلُ وَ يُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ اَلْقَوِيِّ حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ وَ يُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ ع لَمَّا سَمِعَ تَحْكِيمَهُمْ قَالَ حُكْمَ اَللَّهِ أَنْتَظِرُ فِيكُمْ وَ قَالَ أَمَّا اَلْإِمْرَةُ اَلْبَرَّةُ فَيَعْمَلُ فِيهَا اَلتَّقِيُّ وَ أَمَّا اَلْإِمْرَةُ اَلْفَاجِرَةُ فَيَتَمَتَّعُ فِيهَا اَلشَّقِيُّ إِلَى أَنْ تَنْقَطِعَ مُدَّتُهُ وَ تُدْرِكَهُ مَنِيَّتُهُ
(111/1)

اختلاف الرأي في القول بوجوب الإمامة
هذا نص صريح منه ع بأن الإمامة واجبة و قد اختلف الناس في هذه
[ 308 ]
المسألة فقال المتكلمون كافة الإمامة واجبة إلا ما يحكى عن أبي بكر الأصم من قدماء أصحابنا أنها غير واجبة إذا تناصفت الأمة و لم تتظالم . و قال المتأخرون من أصحابنا إن هذا القول منه غير مخالف لما عليه الأمة لأنه إذا كان لا يجوز في العادة أن تستقيم أمور الناس من دون رئيس يحكم بينهم فقد قال بوجوب الرئاسة على كل حال اللهم إلا أن يقول إنه يجوز أن تستقيم أمور الناس من دون رئيس و هذا بعيد أن يقوله فأما طريق وجوب الإمامة ما هي فإن مشايخنا البصريين رحمهم الله يقولون طريق وجوبها الشرع و ليس في العقل ما يدل على وجوبها . و قال البغداديون و أبو عثمان الجاحظ من البصريين و شيخنا أبو الحسين رحمه الله تعالى إن العقل يدل على وجوب الرئاسة و هو قول الإمامية إلا أن الوجه الذي منه يوجب أصحابنا الرئاسة غير الوجه الذي توجب الإمامية منه الرئاسة و ذاك أن أصحابنا يوجبون الرئاسة على المكلفين من حيث كان في الرئاسة مصالح دنيوية و دفع مضار دنيوية و الإمامية يوجبون الرئاسة على الله تعالى من حيث كان في الرئاسة لطف و بعد للمكلفين عن مواقعة القبائح العقلية . و الظاهر من كلام أمير المؤمنين ع يطابق ما يقوله أصحابنا أ لا تراه كيف علل قوله لا بد للناس من أمير فقال في تعليله يجمع به الفي ء و يقاتل به العدو و تؤمن به السبل و يؤخذ للضعيف من القوي و هذه كلها من مصالح الدنيا . فإن قيل ذكرتم أن الناس كافة قالوا بوجوب الإمام فكيف يقول أمير المؤمنين ع عن الخوارج إنهم يقولون لا إمرة . قيل إنهم كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك و يذهبون إلى أنه لا حاجة إلى الإمام ثم رجعوا عن ذلك القول لما أمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي .
[ 309 ]
(112/1)

فإن قيل فسروا لنا ألفاظ أمير المؤمنين ع قيل إن الألفاظ كلها ترجع إلى إمرة الفاجر . قال يعمل فيها المؤمن أي ليست بمانعة للمؤمن من العمل لأنه يمكنه أن يصلي و يصوم و يتصدق و إن كان الأمير فاجرا في نفسه . ثم قال و يستمتع فيها الكافر أي يتمتع بمدته كما قال سبحانه للكافرين قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنَّارِ . و يبلغ الله فيها الأجل لأن إمارة الفاجر كإمارة البر في أن المدة المضروبة فيها تنتهي إلى الأجل المؤقت للإنسان . ثم قال و يجمع به الفي ء و يقاتل به العدو و تأمن به السبل و يؤخذ به للضعيف من القوي و هذا كله يمكن حصوله في إمارة الفاجر القوي في نفسه
و قد قال رسول الله ص إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر و قد اتفقت المعتزلة على أن أمراء بني أمية كانوا فجارا عدا عثمان و عمر بن عبد العزيز و يزيد بن الوليد و كان الفي ء يجمع بهم و البلاد تفتح في أيامهم و الثغور الإسلامية محصنة محوطة و السبل آمنة و الضعيف منصور على القوي الظالم و ما ضر فجورهم شيئا في هذه الأمور ثم قال ع فتكون هذه الأمور حاصلة إلى أن يستريح بر بموته أو يستراح من فاجر بموته أو عزله . فأما الرواية الثانية فإنه قد جعل التقي يعمل فيها للإمرة البرة خاصة . و باقي الكلام غني عن الشرح
[ 310 ]
(112/2)

من أخبار الخوارج أيضا
و روى إبراهيم بن الحسن بن ديزيل المحدث في كتاب صفين عن عبد الرحمن بن زياد عن خالد بن حميد المصري عن عمر مولى غفرة قال لما رجع علي ع من صفين إلى الكوفة أقام الخوارج حتى جموا ثم خرجوا إلى صحراء بالكوفة تسمى حروراء فنادوا لا حكم إلا لله و لو كره المشركون ألا إن عليا و معاوية أشركا في حكم الله .
فأرسل علي ع إليهم عبد الله بن عباس فنظر في أمرهم و كلمهم ثم رجع إلى علي ع فقال له ما رأيت فقال ابن عباس و الله ما أدري ما هم فقال له علي ع رأيتهم منافقين قال و الله ما سيماهم بسيما المنافقين إن بين أعينهم لأثر السجود و هم يتأولون القرآن فقال علي ع دعوهم ما لم يسفكوا دما أو يغصبوا مالا و أرسل إليهم ما هذا الذي أحدثتم و ما تريدون قالوا نريد أن نخرج نحن و أنت و من كان معنا بصفين ثلاث ليال و نتوب إلى الله من أمر الحكمين ثم نسير إلى معاوية فنقاتله حتى يحكم الله بيننا و بينه فقال علي ع فهلا قلتم هذا حين بعثنا الحكمين و أخذنا منهم العهد و أعطيناهموه أ لا قلتم هذا حينئذ قالوا كنا قد طالت الحرب علينا و اشتد البأس و كثر الجراح و خلا الكراع و السلاح فقال لهم أ فحين اشتد البأس عليكم عاهدتم فلما وجدتم الجمام قلتم ننقض العهد إن رسول الله كان يفي للمشركين أ فتأمرونني بنقضه . فمكثوا مكانهم لا يزال الواحد منهم يرجع إلى علي ع و لا يزال الآخر
[ 311 ]
يخرج من عند علي ع فدخل واحد منهم على علي ع بالمسجد و الناس حوله فصاح لا حكم إلا لله و لو كره المشركون فتلفت الناس فنادى لا حكم إلا لله و لو كره المتلفتون فرفع علي ع رأسه إليه فقال لا حكم إلا لله و لو كره أبو حسن
فقال علي ع إن أبا الحسن لا يكره أن يكون الحكم لله ثم قال حكم الله أنتظر فيكم فقال له الناس هلا ملت يا أمير المؤمنين على هؤلاء فأفنيتهم فقال إنهم لا يفنون إنهم لفي أصلاب الرجال و أرحام النساء إلى يوم القيامة
(113/1)

روى أنس بن عياض المدني قال حدثني جعفر بن محمد الصادق ع عن أبيه عن جده أن عليا ع كان يوما يؤم الناس و هو يجهر بالقراءة فجهر ابن الكواء من خلفه وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخاسِرِينَ فلما جهر ابن الكواء و هو خلفه بها سكت علي فلما أنهاها ابن الكواء عاد علي ع فأتم قراءته فلما شرع علي ع في القراءة أعاد ابن الكواء الجهر بتلك الآية فسكت علي فلم يزالا كذلك يسكت هذا و يقرأ ذاك مرارا حتى قرأ علي ع فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لا يُوقِنُونَ فسكت ابن الكواء و عاد ع إلى قراءته
[ 312 ]
(113/2)

41 ـ و من خطبة له ع
أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ اَلْوَفَاءَ تَوْأَمُ اَلصِّدْقِ وَ لاَ أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْهُ وَ مَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ اَلْمَرْجِعُ وَ لَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اِتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ اَلْغَدْرَ كَيْساً وَ نَسَبَهُمْ أَهْلُ اَلْجَهْلِ فِيهِ إِلَى حُسْنِ اَلْحِيلَةِ مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اَللَّهُ قَدْ يَرَى اَلْحُوَّلُ اَلْقُلَّبُ وَجْهَ اَلْحِيلَةِ وَ دُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ وَ نَهْيِهِ فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ اَلْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَ يَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لاَ حَرِيجَةَ لَهُ فِي اَلدِّينِ يقال هذا توأم هذا و هذه توأمته و هما توأمان و إنما جعل الوفاء توأم الصدق لأن الوفاء صدق في الحقيقة أ لا ترى أنه قد عاهد على أمر و صدق فيه و لم يخلف و كأنهما أعم و أخص و كل وفاء صدق و ليس كل صدق وفاء فإن امتنع من حيث الاصطلاح تسمية الوفاء صدقا فلأمر آخر و هو أن الوفاء قد يكون بالفعل دون القول و لا يكون الصدق إلا في القول لأنه نوع من أنواع الخبر و الخبر قول .
[ 313 ]
(114/1)

ثم قال و لا أعلم جنة أي درعا أوقى منه أي أشد وقاية و حفظا لأن الوفي محفوظ من الله مشكور بين الناس . ثم قال و ما يغدر من علم كيف المرجع أي من علم الآخرة و طوى عليها عقيدته منعه ذلك أن يغدر لأن الغدر يحبط الإيمان . ثم ذكر أن الناس في هذا الزمان ينسبون أصحاب الغدر إلى الكيس و هو الفطنة و الذكاء فيقولون لمن يخدع و يغدر و لأرباب الجريرة و المكر هؤلاء أذكياء أكياس كما كانوا يقولون في عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة و ينسبون أرباب ذلك إلى حسن الحيلة و صحة التدبير . ثم قال ما لهم قاتلهم الله دعاء عليهم . ثم قال قد يرى الحول القلب وجه الحيلة و يمنعه عنها نهي الله تعالى عنها و تحريمه بعد أن قدر عليها و أمكنه و الحول القلب الذي قد تحول و تقلب في الأمور و جرب و حنكته الخطوب و الحوادث . ثم قال و ينتهز فرصتها أي يبادر إلى افتراصها و يغتنمها من لا حريجة له في الدين أي ليس بذي حرج و التحرج التأثم و الحريجة التقوى و هذه كانت سجيته ع و شيمته ملك أهل الشام الماء عليه و الشريعة بصفين و أرادوا قتله و قتل أهل العراق عطشا فضاربهم على الشريعة حتى ملكها عليهم و طردهم عنها فقال له أهل العراق اقتلهم بسيوف العطش و امنعهم الماء و خذهم قبضا بالأيدي فقال إن في حد السيف لغنى عن ذلك و إني لا أستحل منعهم الماء فأفرج لهم عن الماء فوردوه ثم قاسمهم الشريعة شطرين بينهم و بينه
و كان الأشتر يستأذنه أن يبيت معاوية فيقول
[ 314 ]
(114/2)

إن رسول الله ص نهى أن يبيت المشركون و توارث بنوه ع هذا الخلق الأبي . أراد المضاء أن يبيت عيسى بن موسى فمنعه إبراهيم بن عبد الله . و أرسل لما ظهر بالبصرة إلى محمد بن قحطبة مولى باهلة و كان قد ولي لأبي جعفر المنصور بعض أعمال بفارس فقال له هل عندك مال قال لا قال آلله قال آلله قال خلوا سبيله فخرج ابن قحطبة و هو يقول بالفارسة ليس هذا من رجال أبي جعفر و قال لعبد الحميد بن لاحق بلغني أن عندك مالا للظلمة يعني آل أبي أيوب المورياني كاتب المنصور فقال ما لهم عندي مال قال تقسم بالله قال نعم فقال إن ظهر لهم عندك مال لأعدنك كذابا . و أرسل إلى طلحة الغدري و كان للمنصور عنده مال بلغنا أن عندك مالا فأتنا به فقال أجل إن عندي مالا فإن أخذته مني أغرمنيه أبو جعفر فأضرب عنه . و كان لغير إبراهيم ع من آل أبي طالب من هذا النوع أخبار كثيرة و كان القوم أصحاب دين ليسوا من الدنيا بسبيل و إنما يطلبونها ليقيموا عمود الدين بالإمرة فيها فلم يستقم لهم و الدنيا إلى أهلها أميل
[ 315 ]
(114/3)

الأخبار و الأحاديث و الآيات الواردة في مدح الوفاء و ذم الغدر
و من الأخبار النبوية المرفوعة في ذم الغدر ذمة المسلمين واحدة فإن جارت عليهم أمة منهم فلا تخفروا جوارها فإن لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة
و روى أبو هريرة قال مر رسول الله ص برجل يبيع طعاما فسأله كيف تبيع فأخبره فأمر أبا هريرة أن يدخل فيه يده فأدخلها فإذا هو مبلول فقال رسول الله ص ليس منا من غش قال بعض الملوك لرسول ورد إليه من ملك آخر أطلعني على سر صاحبك فقال أيها الملك إنا لا نستحسن الغدر و إنه لو حول ثواب الوفاء إليه لما كان فيه عوض من قبحه و لكان سماجة اسمه و بشاعة ذكره ناهيين عنه . مالك بن دينار كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة . وقع جعفر بن يحيى على ظهر كتاب كتبه علي بن عيسى بن ماهان إلى الرشيد يسعى فيه بالبرامكة فدفعه الرشيد إلى جعفر يمن به عليه و قال أجبه عنه فكتب في ظاهره حبب الله إليك الوفاء يا أخي فقد أبغضته و بغض إليك الغدر فقد أحببته إني نظرت إلى الأشياء حتى أجد لك فيها مشبها فلم أجد فرجعت إليك فشبهتك بك و لقد بلغ من حسن ظنك بالأيام أن أملت السلامة مع البغي و ليس هذا من عاداتها و السلام . كان العهد في عيسى بن موسى بن محمد بعد المنصور بكتاب كتبه السفاح فلما طالت أيام المنصور سامه أن يخلع نفسه من العهد و يقدم محمدا المهدي عليه فكتب إليه عيسى
بدت لي أمارات من الغدر شمتها
أرى ما بدا منها سيمطركم دما
[ 316 ]
و ما يعلم العالي متى هبطاته
و إن سار في ريح الغرور مسلما
أبو هريرة يرفعه اللهم إني أعوذ بك من الجوع فبئس الضجيع و أعوذ بك من الخيانة فبئست البطانة
و عنه مرفوعا المكر و الخديعة و الخيانة في النار قال مروان بن محمد لعبد الحميد الكاتب عند زوال أمره أرى أن تصير إلى هؤلاء فلعلك أن تنفعني في مخلفي فقال و كيف لي بعلم الناس جميعا أن هذا عن رأيك إنهم ليقولون كلهم إني غدرت بك ثم أنشد
و غدري ظاهر لا شك فيه
(115/1)

لمبصره و عذري بالمغيب
فلما ظفر به عبد الله بن علي قطع يديه و رجليه ثم ضرب عنقه . كان يقال لا يغدر غادر إلا لصغر همته عن الوفاء و اتضاع قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم .
من كلام أمير المؤمنين ع الوفاء لأهل الغدر غدر و الغدر بأهل الغدر وفاء عند الله تعالى . قلت هذا إنما يريد به إذا كان بينهما عهد و مشارطة فغدر أحد الفريقين و خاس بشرطه فإن للآخر أن يغدر بشرطه أيضا و لا يفي به . و من شعر الحماسة و اسم الشاعر العارق الطائي
[ 317 ]
من مبلغ عمرو بن هند رسالة
إذا استحقبتها العيس جاءت من البعد
أ يوعدني و الرمل بيني و بينه
تبين رويدا ما أمامه من هند
و من أجأ حولي رعان كأنها
قنابل خيل من كميت و من ورد
غدرت بأمر كنت أنت اجتررتنا
إليه و بئس الشيمة الغدر بالعهد
قال أبو بكر الصديق ثلاث من كن فيه كن عليه البغي و النكث و المكر قال سبحانه يا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ و قال فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ و قال وَ لا يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ
[ 318 ]
(115/2)

42 ـ و من خطبة له ع
أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اِثْنَتَانِ اِثْنَانِ اِتِّبَاعُ اَلْهَوَى وَ طُولُ اَلْأَمَلِ فَأَمَّا اِتِّبَاعُ اَلْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ اَلْحَقِّ وَ أَمَّا طُولُ اَلْأَمَلِ فَيُنْسِي اَلآْخِرَةَ أَلاَ وَ إِنَّ اَلدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ [ جَذَّاءَ ] فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ اَلْإِنَاءِ اِصْطَبَّهَا صَابُّهَا أَلاَ وَ إِنَّ اَلآْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ اَلآْخِرَةِ وَ لاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ اَلدُّنْيَا فَإِنَّ كُلَّ وَلَدٍ سَيُلْحَقُ بِأُمِّهِ بِأَبِيهِ [ بِأُمِّهِ ] يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ إِنَّ اَلْيَوْمَ عَمَلٌ وَ لاَ حِسَابَ وَ غَداً حِسَابٌ وَ لاَ عَمَلَ قال الرضي رحمه الله أقول الحذاء السريعة و من الناس من يرويه جذاء بالجيم و الذال أي انقطع درها و خيرها الصبابة بقية الماء في الإناء و اصطبها صابها مثل قولك أبقاها مبقيها أو تركها تاركها و نحو ذلك يقول أخوف ما أخافه عليكم اتباع الهوى و طول الأمل أما اتباع الهوى فيصد عن الحق و هذا صحيح لا ريب فيه لأن الهوى يعمي البصيرة و قد قيل
[ 319 ]
حبك الشي ء يعمي و يصم و لهذا قال بعض الصالحين رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي و ذاك لأن الإنسان يحب نفسه و من أحب شيئا عمي عن عيوبه فلا يكاد الإنسان يلمح عيب نفسه و قد قيل
أرى كل إنسان يرى عيب غيره
و يعمى عن العيب الذي هو فيه
فلهذا استعان الصالحون على معرفة عيوبهم بأقوال غيرهم علما منهم أن هوى النفس لذاتها يعميها عن أن تدرك عيبها و ما زال الهوى مرديا قتالا و لهذا قال سبحانه وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوى
(116/1)

و قال ص ثلاث مهلكات شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه . و أنت إذا تأملت هلاك من هلك من المتكلمين كالمجبرة و المرجئة مع ذكائهم و فطنتهم و اشتغالهم بالعلوم عرفت أنه لا سبب لهلاكهم إلا هوى الأنفس و حبهم الانتصار للمذهب الذي قد ألفوه و قد رأسوا بطريقه و صارت لهم الأتباع و التلامذة و أقبلت الدنيا عليهم و عدهم السلاطين علماء و رؤساء فيكرهون نقض ذلك كله و إبطاله و يحبون الانتصار لتلك المذاهب و الآراء التي نشئوا عليها و عرفوا بها و وصلوا إلى ما وصلوا إليه بطريقها و يخافون عار الانتقال عن المذهب و أن يشتفي بهم الخصوم و يقرعهم الأعداء و من أنصف علم أن الذي ذكرناه حق و أما طول الأمل فينسي الآخرة و هذا حق لأن الذهن إذا انصرف إلى الأمل و مد الإنسان في مداه فإنه لا يذكر الآخرة بل يصير مستغرق الوقت بأحوال الدنيا و ما يرجو حصوله منها في مستقبل الزمان .
[ 320 ]
و من كلام مسعر بن كدام كم من مستقبل يوما ليس يستكمله و منتظر غدا ليس من أجله و لو رأيتم الأجل و مسيره أبغضتم الأمل و غروره . و كان يقال تسويف الأمل غرار و تسويل المحال ضرار .
و من الشعر المنسوب إلى علي ع
غر جهولا أمله
يموت من جا أجله
و من دنا من حتفه
لم تغن عنه حيله
و ما بقاء آخر
قد غاب عنه أوله
و المرء لا يصحبه
في القبر إلا عمله
و قال أبو العتاهية
لا تأمن الموت في لحظ و لا نفس
و لو تمنعت بالحجاب و الحرس
و اعلم بأن سهام الموت قاصدة
لكل مدرع منا و مترس
ما بال دينك ترضى أن تدنسه
و ثوب لبسك مغسول من الدنس
ترجو النجاة و لم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس
(116/2)

و من الحديث المرفوع أيها الناس إن الأعمال تطوى و الأعمار تفنى و الأبدان تبلى في الثرى و إن الليل و النهار يتراكضان تراكض الفرقدين يقربان كل بعيد و يخلقان كل جديد و في ذلك ما ألهى عن الأمل و أذكرك بحلول الأجل و قال بعض الصالحين بقاؤك إلى فناء و فناؤك إلى بقاء فخذ من فنائك الذي لا يبقى لبقائك الذي لا يفنى . و قال بعضهم اغتنم تنفس الأجل و إمكان العمل و اقطع ذكر المعاذير و العلل و دع تسويف الأماني و الأمل فإنك في نفس معدود و عمر محدود ليس بممدود . و قال بعضهم اعمل عمل المرتحل فإن حادي الموت يحدوك ليوم لا يعدوك
[ 321 ]
ثم قال ع ألا إن الدنيا قد أدبرت حذاء بالحاء و الذال المعجمة و هي السريعة و قطاة حذاء خف ريش ذنبها و رجل أحذ أي خفيف اليد و قد روي قد أدبرت جذاء بالجيم أي قد انقطع خيرها و درها . ثم قال إن كل ولد سيلحق بأمه يوم القيامة فكونوا من أبناء الآخرة لتلحقوا بها و تفوزوا و لا تكونوا من أبناء الدنيا فتلحقوا بها و تخسروا . ثم قال اليوم عمل و لا حساب و غدا حساب و لا عمل و هذا من باب المقابلة في علم البيان
[ 322 ]
(116/3)

43 ـ و من كلام له ع و قد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله إلى معاوية بجرير بن عبد الله البجلي
إِنَّ اِسْتِعْدَادِي لِحَرْبِ أَهْلِ اَلشَّامِ وَ جَرِيرٌ عِنْدَهُمْ إِغْلاَقٌ لِلشَّامِ وَ صَرْفٌ لِأَهْلِهِ عَنْ خَيْرٍ إِنْ أَرَادُوهُ وَ لَكِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِيرٍ وَقْتاً لاَ يُقِيمُ بَعْدَهُ إِلاَّ مَخْدُوعاً أَوْ عَاصِياً وَ اَلرَّأْيُ عِنْدِي مَعَ اَلْأَنَاةِ فَأَرْوِدُوا وَ لاَ أَكْرَهُ لَكُمُ اَلْإِعْدَادَ وَ لَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هَذَا اَلْأَمْرِ وَ عَيْنَهُ وَ قَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَ بَطْنَهُ فَلَمْ أَرَ لِي فِيهِ إِلاَّ اَلْقِتَالَ أَوِ اَلْكُفْرَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ص إِنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى اَلْأُمَّةِ وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثاً وَ أَوْجَدَ اَلنَّاسَ مَقَالاً فَقَالُوا ثُمَّ نَقَمُوا فَغَيَّرُوا أرودوا أي ارفقوا أرود في السير إروادا أي سار برفق و الأناة التثبت و التأني و نهيه لهم عن الاستعداد و قوله بعد و لا أكره لكم الإعداد غير متناقض لأنه كره منهم إظهار الاستعداد و الجهر به و لم يكره الإعداد في السر و على وجه الخفاء
[ 323 ]
(117/1)

و الكتمان و يمكن أن يقال إنه كره استعداد نفسه و لم يكره إعداد أصحابه و هذان متغايران و هذا الوجه اختاره القطب الراوندي . و لقائل أن يقول التعليل الذي علل به ع يقتضي كراهية الأمرين معا و هو أن يتصل بأهل الشام الاستعداد فيرجعوا عن السلم إلى الحرب بل ينبغي أن تكون كراهته لإعداد جيشه و عسكره خيولهم و آلات حربهم أولى لأن شياع ذلك أعظم من شياع استعداده وحده لأنه وحده يمكن أن يكتم استعداده و أما استعداد العساكر العظيمة فلا يمكن أن يكتم فيكون اتصاله و انتقاله إلى أهل الشام أسرع فيكون إغلاق الشام عن باب خير إن أرادوه أقرب و الوجه في الجمع بين اللفظتين ما قدمناه . و أما قوله ع ضربت أنف هذا الأمر و عينه فمثل تقوله العرب إذا أرادت الاستقصاء في البحث و التأمل و الفكر و إنما خص الأنف و العين لأنهما صورة الوجه و الذي يتأمل من الإنسان إنما هو وجهه . و أما قوله ليس إلا القتال أو الكفر فلأن النهي عن المنكر واجب على الإمام و لا يجوز له الإقرار عليه فإن تركه فسق و وجب عزله عن الإمامة . و قوله أو الكفر من باب المبالغة و إنما هو القتال أو الفسق فسمى الفسق كفرا تغليظا و تشديدا في الزجر عنه . و قوله ع أوجد الناس مقالا أي جعلهم واجدين له . و قال الراوندي أوجد هاهنا بمعنى أغضب و هذا غير صحيح لأنه لا شي ء ينصب به مقالا إذا كان بمعنى أغضب و الوالي المشار إليه عثمان
[ 324 ]
(117/2)

ذكر ما أورده القاضي عبد الجبار من دفع ما تعلق به الناس على عثمان من الأحداث
يجب أن نذكر هاهنا أحداثه و ما يقوله أصحابنا في تأويلاتها و ما تكلم به المرتضى في كتاب الشافي في هذا المعنى فنقول إن قاضي القضاة رحمه الله تعالى قال في المغني قبل الكلام في تفصيل هذه الأحداث كلاما مجملا معناه أن كل من تثبت عدالته و وجب توليه إما على القطع و إما على الظاهر فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن يقتضي العدول عنها يبين ذلك أن من شاهدناه على ما يوجب الظاهر توليه و تعظيمه يجب أن يبقى فيه على هذه الطريقة و إن غاب عنا و قد عرفنا أنه مع الغيبة يجوز أن يكون مستمرا على حالته و يجوز أن يكون منتقلا و لم يقدح هذا التجويز في وجوب ما ذكرناه . ثم قال فالحدث الذي يوجب الانتقال عن التعظيم و التولي إذا كان من باب محتمل لم يجز الانتقال لأجله و الأحوال المتقررة في النفوس بالعادات و الأحوال المعروفة فيمن نتولاه أقوى في باب الإمارة من الأمور المتجددة فإن مثل فرقد السبخي و مالك بن دينار لو شوهدا في دار فيها منكر لقوي في الظن حضورهما للتغيير و الإنكار
[ 325 ]
(118/1)

أو على وجه الإكراه أو الغلط و لو كان الحاضر هناك من علم من حاله الاختلاط بالمنكر لجوز حضوره للفساد بل كان ذلك هو الظاهر من حاله . ثم قال و اعلم أن الكلام فيما يدعى من الحدث و التغير فيمن ثبت توليه قد يكون من وجهين أحدهما هل علم بذلك أم لا . و الثاني أنه مع يقين حصوله هل هو حدث يؤثر في العدالة أم لا . و لا فرق بين تجويز ألا يكون حدث أصلا و بين أن يعلم حدوثه و يجوز ألا يكون حدثا . ثم قال كل محتمل لو أخبر الفاعل أنه فعله على أحد الوجهين و كان يغلب على الظن صدقه لوجب تصديقه فإذا عرف من حاله المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك جرى مجرى الإقرار بل ربما كان أقوى و متى لم نسلك هذه الطريقة في الأمور المشتبهة لم يصح في أكثر من نتولاه و نعظمه أن تسلم حاله عندنا فإنا لو رأينا من يظن به الخير يكلم امرأة حسناء في الطريق لكان ذلك من باب المحتمل فإذا كان لو أخبر أنها أخته أو امرأته لوجب ألا نحول عن توليه فكذلك إذا كان قد تقدم في النفوس ستره و صلاحه فالواجب أن نحمله على هذا الوجه . ثم قال و قول الإمام له مزية في هذا الباب لأنه آكد من غيره و أما ما ينقل عن رسول الله ص فإنه و إن لم يكن مقطوعا به يؤثر في هذا الباب و يكون أقوى مما تقدم . ثم قال و قد طعن الطاعنون فيه بأمور متنوعة مختلفة و نحن نقدم على تلك المطاعن كلاما مجملا يبين بطلانها على الجملة ثم نتكلم عن تفصيلها .
[ 326 ]
(118/2)

قال و ذلك أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قد قال لو كانت هذه الأحداث مما توجب طعنا على الحقيقة لوجب من الوقت الذي ظهر ذلك من حاله أن يطلب المسلمون رجلا ينصب للإمامة و أن يكون ظهور ذلك عن عثمان كموته فإنه لا خلاف أنه متى ظهر من الإمام ما يوجب خلعه أن الواجب على المسلمين إقامة إمام سواه فلما علمنا أن طلبهم لإقامة إمام إنما كان بعد قتله و لم يكن من قبل و التمكن قائم علمنا بطلان ما أضيف إليه من الأحداث . قال و ليس لأحد أن يقول إنهم لم يتمكنوا من ذلك لأن المتعالم من حالهم أنهم حصروه و منعوه من التمكن من نفسه و من التصرف في سلطانه خصوصا و الخصوم يدعون أن الجميع كانوا على قول واحد في خلعه و البراءة منه . قال و معلوم من حال هذه الأحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حوصر فيها و قتل بل كانت تحصل من قبل حالا بعد حال فلو كان ذلك يوجب الخلع و البراءة لما تأخر من المسلمين الإنكار عليه و لكان كبار الصحابة المقيمون بالمدينة أولى بذلك من الواردين من البلاد لأن أهل العلم و الفضل بإنكار ذلك أحق من غيرهم . قال فقد كان يجب على طريقتهم أن تحصل البراءة و الخلع من أول الوقت الذي حصل منه ما أوجب ذلك و ألا ينتظر حصول غيره من الأحداث لأنه لو وجب انتظار ذلك لم ينته إلى حد إلا و ينتظر غيره . ثم ذكر أن إمساكهم عن ذلك إذا تيقنوا الأحداث منه يوجب نسبة الجميع إلى الخطإ و الضلال و لا يمكنهم أن يقولوا إن علمهم بذلك إنما حصل في الوقت الذي حصر و منع لأن من جملة الأحداث التي يذكرونها ما تقدم عن هذه الحال بل كلها أو جلها تقدم هذا الوقت و إنما يمكنهم أن يتعلقوا فيما حدث في هذا الوقت بما يذكرونه من
[ 327 ]
(118/3)

حديث الكتاب النافذ إلى ابن أبي سرح بالقتل و ما أوجب كون ذلك حدثنا يوجب كون غيره حدثا فكان يجب أن يفعلوا ذلك من قبل و احتمال المتقدم للتأويل كاحتمال المتأخر . ثم قال و بعد فليس يخلو من أن يدعوا أن طلب الخلع وقع من كل الأمة أو من بعضهم فإن ادعوا ذلك في بعض الأمة فقد علمنا أن الإمامة إذا ثبتت بالإجماع لم يجز إبطالها بلا خلاف لأن الخطأ جائز على بعض الأمة و إن ادعوا في ذلك الإجماع لم يصح لأن من جملة أهل الإجماع عثمان و من كان ينصره و لا يمكن إخراجه من الإجماع بأن يقال إنه كان على باطل لأن بالإجماع يتوصل إلى ذلك و لم يثبت . ثم قال على أن الظاهر من حال الصحابة أنها كانت بين فريقين أما من نصره فقد روي عن زيد بن ثابت أنه قال لعثمان و من معه من الأنصار ائذن لنا بنصرك و روي مثل ذلك عن ابن عمر و أبي هريرة و المغيرة بن شعبة و الباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض إلا أنه لو ضيق عليهم الأمر في الدفع ما قعدوا بل المتعالم من حالهم ذلك . ثم ذكر ما روي من إنفاذ أمير المؤمنين ع الحسن و الحسين ع إليه و أنه لما قتل لامهما ع على وصول القوم إليه ظنا منه أنهما قصرا .
و ذكر أن أصحاب الحديث يروون عن النبي ص أنه قال ستكون فتنة و اختلاف و أن عثمان و أصحابه يومئذ على الهدى و ما روي عن عائشة من قولها قتل و الله مظلوما . قال و لا يمتنع أن يتعلق بأخبار الأحاديث في ذلك لأنه ليس هناك أمر ظاهر يدفعه نحو دعواهم أن جميع الصحابة كانوا عليه لأن ذلك دعوى منهم و إن كان فيه رواية من جهة الآحاد و إذا تعارضت الروايات سقطت و وجب الرجوع إلى ما ثبت من أحواله السليمة و وجوب توليه .
[ 328 ]
(118/4)

قال و لا يجوز أن يعدل عن تعظيمه و صحة إمامته بأمور محتملة فلا شي ء مما ذكروه إلا و يحتمل الوجه الصحيح . ثم ذكر أن للإمام أن يجتهد برأيه في الأمور المنوطة به و يعمل فيها على غالب ظنه و قد يكون مصيبا و إن أفضت إلى عاقبة مذمومة . فهذه جملة ما ذكره قاضي القضاة رحمه الله تعالى في المغني من الكلام إجمالا في دفع ما يتعلق به على عثمان من الأحداث
(118/5)

رد المرتضى على ما أورده القاضي عبد الجبار من الدفاع عن عثمان
و اعترض المرتضى رحمه الله تعالى في الشافي فقال أما قوله من تثبت عدالته و وجب توليه إما قطعا أو على الظاهر فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن فغير مسلم لأن من نتولاه على الظاهر و ثبتت عدالته عندنا من جهة غالب الظن يجب أن نرجع عن ولايته بما يقتضي غالب الظن دون اليقين و لهذا يؤثر في جرح الشهود و سقوط عدالتهم أقوال الجارحين و إن كانت مظنونة غير معلومة و ما يظهر من أنفسهم من الأفعال التي لها ظاهر يظن معه القبيح بهم حتى نرجع عما كنا عليه من القول بعدالتهم و إن لم يكن كل ذلك متيقنا و إنما يصح ما ذكره فيمن ثبتت عدالته على القطع و وجب توليه على الباطن فلا يجوز أن يؤثر في حاله ما يقتضي الظن لأن الظن لا يقابل العلم و الدلالة لا تقابل الأمارة . فإن قال لم أرد بقولي إلا بأمر متيقن أن كونه حدثا متيقن و إنما أردت تيقن وقوع الفعل نفسه . قلنا الأمران سواء في تأثير غلبة الظن فيهما و لهذا يؤثر في عدالة من تقدمت
[ 329 ]
(119/1)

عدالته عندنا على سبيل الظن أقوال من يخبرنا عنه بارتكاب القبائح إذا كانوا عدولا و إن كانت أقوالهم لا تقتضي اليقين بل يحصل عندها غالب الظن و كيف لا نرجع عن ولاية من توليناه على الظاهر بوقوع أفعال منه يقتضي ظاهرها خلاف الولاية و نحن إنما قلنا بعدالته في الأصل على سبيل الظاهر و مع التجويز لأن يكون ما وقع منه في الباطن قبيحا لا يستحق به التولي و التعظيم أ لا ترى أن من شاهدناه يلزم مجالس العلم و يكرر تلاوة القرآن و يدمن الصلاة و الصيام و الحج يجب أن نتولاه و نعظمه على الظاهر و إن جوزنا أن يكون جميع ما وقع منه مع خبث باطنه و أن غرضه في فعله القبيح فلم نتوله إلا على الظاهر و مع التجويز فكيف لا نرجع عن ولايته بما يقابل هذه الطريقة فأما من غاب عنا و تقدمت له أحوال تقتضي الولاية فيجب أن نستمر على ولايته و إن جوزنا على الغيبة أن يكون منتقلا عن الأحوال الجميلة التي عهدناها منه إلا أن هذا تجويز محض لا ظاهر معه يقابل ما تقدم من الظاهر الجميل و هو بخلاف ما ذكرناه من مقابلة الظاهر للظاهر و إن كان في كل واحد من الأمرين تجويز . قال و قد أصاب في قوله إن ما يحتمل لا ينتقل له عن التعظيم و التولي إن أراد بالاحتمال ما لا ظاهر له و أما ما له ظاهر و مع ذلك يجوز أن يكون الأمر فيه بخلاف ظاهره فإنه لا يسمى محتملا و قد يكون مؤثرا فيما ثبت من التولي على الظاهر على ما ذكرناه . قال فأما قوله إن الأحوال المتقررة في النفوس بالعادات فيمن نتولاه تؤثر ما لا يؤثر غيرها و تقتضي حمل أفعاله على الصحة و التأول له فلا شك أن ما ذكره مؤثر و طريق قوي إلى غلبة الظن إلا أنه ليس يقتضي ما يتقرر في نفوسنا لبعض من نتولاه على الظاهر أن نتأول كل ما يشاهد منه من الأفعال التي لها ظاهر قبيح و نحمل الجميع على
[ 330 ]
(119/2)

أجمل الوجوه و إن كان بخلاف الظاهر بل ربما تبين الأمر فيما يقع منه من الأفعال التي ظاهرها القبيح إلى أن تؤثر في أحواله المقررة و نرجع بها عن ولايته و لهذا نجد كثيرا من أهل العدالة المتقررة لهم في النفوس ينسلخون منها حتى يلحقوا بمن لا تثبت له في وقت من الأوقات عدالة و إنما يكون ذلك بما يتوالى منهم و يتكرر من الأفعال القبيحة الظاهرة . قال فأما ما استشهد به من أن مثل مالك بن دينار لو شاهدناه في دار فيها منكر لقوي في الظن حضوره لأجل التغيير و الإنكار أو على وجه الإكراه و الغلط و أن غيره يخالفه في هذا الباب فصحيح لا يخالف ما ذكرناه لأن مثل مالك بن دينار ممن تناصرت أمارات عدالته و شواهد نزاهته حالا بعد حال لا يجوز أن يقدح فيه فعل له ظاهر قبيح بل يجب لما تقدم من حاله أن نتأول فعله و نخرجه عن ظاهره إلى أجمل وجوهه و إنما وجب ذلك لأن الظنون المتقدمة أقوى و أولى بالترجيح و الغلبة فنجعلها قاضية على الفعل و الفعلين و لهذا متى توالت منه الأفعال القبيحة الظاهرة و تكررت قدحت في حاله و أثرت في ولايته كيف لا يكون كذلك و طريق ولايته في الأصل هو الظن و الظاهر و لا بد من قدح الظاهر في الظاهر و تأثير الظن في الظن على بعض الوجوه . قال فأما قوله فإن كل محتمل لو أخبرنا عنه و هو مما يغلب على الظن صدقه أنه فعله على أحد الوجهين وجب تصديقه فمتى عرف من حاله المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك جرى مجرى الإخبار فأول ما فيه أن المحتمل هو ما لا ظاهر له من الأفعال و الذي يكون جواز كونه قبيحا كجواز كونه حسنا و مثل هذا الفعل لا يقتضي ولاية
[ 331 ]
(119/3)

و لا عداوة و إنما يقتضي الولاية ما له من الأفعال ظاهر جميل و يقتضي العداوة ما له ظاهر قبيح . فإن قال أردت بالمحتمل ما له ظاهر لكنه يجوز أن يكون الأمر بخلاف ظاهره . قيل له ما ذكرته لا يسمى محتملا فإن كنت عنيته فقد وضعت العبارة في غير موضعها و لا شك في أنه إذا كان ممن لو أخبرنا بأنه فعل الفعل على أحد الوجهين لوجب تصديقه و حمل الفعل على خلاف ظاهره فإن الواجب لما تقرر له في النفوس أن يتأول له و يعدل بفعله عن الوجه القبيح إلى الوجه الجميل إلا أنه متى توالت منه الأفعال التي لها ظواهر قبيحة فلا بد أن تكون مؤثرة في تصديقه متى خبرنا بأن غرضه في الفعل خلاف ظاهره كما تكون مانعة من الابتداء بالتأول . و ضربه المثل بأن من نراه يكلم امرأة حسناء في الطريق إذا أخبر أنها أخته أو امرأته في أن تصديقه واجب و لو لم يخبر بذلك لحملنا كلامه لها على أجمل الوجوه لما تقدم له في النفوس صحيح إلا أنه لا بد من مراعاة ما تقدم ذكره من أنه قد يقوى الأمر لقوة الأمارات و الظواهر إلى حد لا يجوز معه تصديقه و لا التأول له و لو لا أن الأمر قد ينتهي إلى ذلك لما صح أن يخرج أحد عندنا من الولاية إلى العداوة و لا من العدالة إلى خلافها لأنه لا شي ء مما يفعله الفساق المتهتكون إلا و يجوز أن يكون له باطن بخلاف الظاهر و مع ذلك فلا يلتفت إلى هذا التجويز يبين صحة ما ذكرناه أنا لو رأينا من يظن به الخير يكلم امرأة حسناء في الطريق و يداعبها و يضاحكها لظننا به الجميل مرة و مرات ثم ينتهي الأمر إلى ألا نظنه و كذلك لو شاهدناه و بحضرته المنكر لحملنا حضوره على الغلط أو الإكراه أو غير ذلك من الوجوه الجميلة ثم لا بد من انتهاء الأمر إلى أن نظن به القبيح و لا نصدقه في كلامه .
[ 332 ]
(119/4)

قال ثم نقول له أخبرنا عمن شاهدناه من بعد و هو مفترش امرأة نعلم أنها ليست له بمحرم و أن لها في الحال زوجا غيره و هو ممن تقررت له في النفوس عدالة متقدمة ما ذا يجب أن نظن به و هل نرجع بهذا الفعل عن ولايته أم نحمله على أنه غالط و متوهم أن المرأة زوجته أو على أنه مكره على الفعل أو غير ذلك من الوجوه الجميلة . فإن قال نرجع عن الولاية اعترف بخلاف ما قصده في الكلام و قيل له أي فرق بين هذا الفعل و بين جميع ما عددناه من الأفعال و ادعيت أن الواجب أن نعدل عن ظاهرها و ما جواز الجميل في ذلك إلا كجواز الجميل في هذا الفعل . و إن قال لا أرجع بهذا الفعل عن ولايته بل نؤوله على بعض الوجوه الجميلة . قيل له أ رأيت لو تكرر هذا الفعل و توالى هو و أمثاله حتى نشاهده حاضرا في دور القمار و مجالس اللهو و اللعب و نراه يشرب الخمر بعينها و كل هذا مما يجوز أن يكون عليه مكرها و في أنه القبيح بعينه غالطا أ كان يجب علينا الاستمرار على ولايته أم العدول عنها فإن قال نستمر و نتأول ارتكب ما لا شبهة في فساده و ألزم ما قد قدمنا ذكره من أنه لا طريق إلى الرجوع عن ولاية أحد و لو شاهدنا منه أعظم المناكير و وقف أيضا على أن طريق الولاية المتقدمة إذا كان الظن دون القطع فكيف لا نرجع عنها لمثل هذا الطريق فلا بد إذن من الرجوع إلى ما بيناه و فصلناه في هذا الباب . قال فأما قوله إن قول الإمام له مزية لأنه آكد من غيره فلا معنى له لأن قول الإمام على مذهبنا يجب أن يكون له مزية من حيث كان معصوما مأمون الباطن و على مذهبه إنما تثبت ولايته بالظاهر كما تثبت ولاية غيره من سائر المؤمنين فأي مزية له في هذا الباب .
[ 333 ]
(119/5)

و قوله إن ما ينقل عن الرسول و إن لم يكن مقطوعا عليه يؤثر في هذا الباب و يكون أقوى مما تقدم غير صحيح على إطلاقه لأن تأثير ما ينقل إذا كان يقتضي غلبة الظن لا شبهة فيه فأما تقويته على غيره فلا وجه له و قد كان يجب أن يبين من أي الوجوه يكون أقوى . فهذه جملة ما اعترض به المرتضى على الفصل الأول من كلام قاضي القضاة رحمه الله تعالى . تم الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة
(119/6)

فهرس الجزء الثاني
? تتمة الخطب و الأوامر
? تتمة خطبة 25
? بعث معاوية بسر بن أرطاة إلى الحجاز و اليمن
? 26 و من خطبة له ع
? حديث السقيفة
? قدوم عمرو بن العاص على معاوية
? 27 و من خطبة له ع
? استطراد بذكر كلام لابن نباتة في الجهاد
? غارة سفيان بن عوف الغامدي على الأنبار
? 28 و من خطبة له ع
? نبذ من أقوال الصالحين و الحكماء
? استطراد بلاغي في الكلام على المقابلة
? 29 و من خطبة له ع
? غارة الضحاك بن قيس و نتف من أخباره
? 30 و من خطبة له ع في معنى قتل عثمان
? اضطراب الأمر على عثمان ثم أخبار مقتله
? 31 و من كلام له ع لما أنفذ عبد الله بن عباس إلى الزبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل ليستفيئه إلى طاعته
? من أخبار الزبير و ابنه عبد الله
? استطراد بلاغي في الكلام على الاستدراج
? 32 و من خطبة له ع
? فصل في ذكر الآيات و الأخبار الواردة في ذم الرياء و الشهرة
? فصل في مدح الخمول و الجنوح إلى العزلة
? 33 و من خطبة له ع عند خروجه لقتال أهل البصرة
? خبر يوم ذي قار
? 34 و من خطبة له ع في استنفار الناس إلى أهل الشام
? أمر الناس بعد وقعة النهروان
? مناقب علي و ذكر طرف من أخباره في عدله و زهده
? 35 و من خطبة له ع بعد التحكيم
? قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج
? 36 و من خطبة له ع في تخويف أهل النهروان
? أخبار الخوارج
? 37 و من كلام له ع يجري مجرى الخطبة
? الأخبار الواردة عن معرفة الإمام علي بالأمور الغيبية
? 38 و من خطبة له ع
? 39 و من خطبة له ع
? أمر النعمان بن بشير مع علي و مالك بن كعب الأرحبي
? 40 و من كلام له ع للخوارج لما سمع قولهم لا حكم إلا لله
? اختلاف الرأي في القول بوجوب الإمامة
? من أخبار الخوارج أيضا
? 41 و من خطبة له ع
? الأخبار و الأحاديث و الآيات الواردة في مدح الوفاء و ذم الغدر
? 42 و من خطبة له ع
(120/1)

? 43 و من كلام له ع و قد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله إلى معاوية بجرير بن عبد الله البجلي
? ذكر ما أورده القاضي عبد الجبار من دفع ما تعلق به الناس على عثمان من الأحداث
? رد المرتضى على ما أورده القاضي عبد الجبار من الدفاع عن عثمان
(120/2)

ه الله فعل فعل السيد و فر فرار العبد و خان خيانة الفاجر أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه فإن وجدنا له شيئا أخذناه
[ 146 ]
(137/18)

(144/9)

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire