بقلم: د. فاضل الأنصاري
الحاكمية بين الإسلام الرسولي والإسلام التاريخي
بنزول الوحي وتتابع الأحكام الشرعية، ظهرت الحاجة لسلطة تقوم بتنفيذها في المجتمع الذي نشأت فيه. وبتطور ذلك المجتمع نحو دولة واحدة متسعة الأرجاء بمؤسسات متعددة، تنامى التنوع الحكومي وأملت الحاجات المستجدة نشوء أنماط اختلف فيها الشكل والأداء السياسي للسلطة عما كانت عليه في الإسلام الأول أو إسلام عهد الرسول محمد (ص ) . وانتقل خلالها الحكم من نظام يقوم على "حكم الله" وحكومته، وعلى الشورى أو التعيين بالشورى ، إلى حكومة الفئة بعقائدها ومناهجها وطرائقها في توريث السلطة المحصورة في أسرة واحدة.
ويبدو أن النص الإسلامي تحسب لتلك الديناميكية، ولم يغفل احتمالات التطور وإمكاناته، فكان عدم تحديده للكيفية التي يتم فيها تسمية الحاكم ، مقصودا يتفق وجوهر العقيدة ويتناسب كليا وسياقها العام. ، إقرارا منه للمستلزمات الظرفية التي قد تقتضي أساليب متباينة تتلاءم وعصرها وطبيعة مجتمعها.
عصر الرسول
الشريعة في هذا العهد هي بما أنزله الله وبما صدر عن رسوله مما يوحى إليه، فلم يكن هناك رأي لمجتهد أو جهر بخلاف، فقد اقتضت طبيعة العهد أن يكون التشريع مباشراً من المشرع.
واختلفت الحاجات بين مرحلة الإسلام في مكة عنها في المدينة بعد الهجرة، بين فترة التبشير بالدعوة والتوحيد ونبذ الجاهلية إلى وضع دستور لتأسيس المجتمع الإسلامي وتحويل المبادئ النظرية إلى ممارسات تحكمها قواعد سياسية يقودها الرسول(1).
فقد توجه الخطاب في الآيات المكية إلى المشركين والناس جميعا "يا أيها الناس " بجمل سهلة قصيرة، بينما تركز الخطاب في المدينة إلى المؤمنين "يا أيها الذين آمنوا". ولم تتضمن الآيات المكية أحكاما ومبادئ قانونية ولم تشتمل على التشريع والأحكام من أحوال ومعاملات وعقوبات، كما دعت إلى التوحيد وحثت على مكارم الأخلاق والفضائل وقدمت قرائن تاريخية للهداية. أما في المدينة فقد بدأت مرحلة تأسيس النواة للمجتمع الإسلامي. ولم تكن بعد قد اكتملت الظروف لتكوين سلطان أو ملك ولا حكومة تقوم على المؤسسات السلطوية، والإدارية. وظلت أوليات عمل الرسول تصب في ترسيخ الديانة وإقامة الشريعة والذود عن كيانها وحماية المسلمين وترتيب علاقات الأفراد ببعضهم وبالمجتمع، وتحديد آفاق العمل المستقبلي في ضوء المبادئ وبمرجعية عليا فيها الله عز وجل هو الحاكم الحقيقي للعالم "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء" ـ آل عمران 26ـ و"لله ملك السموات والأرض" ـ الشورى 49 ـ "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير" ـ الملك 1 ـ . بينما كان النبي مبشراً ونذيراً "ما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين" ـ الأنعام 48 ـ ، تنزل عليهم أحكام الباري " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" ـ الأنفال 17 ـ . وتحددت الطاعة للرسول بمقتضاه فأصبحت طاعة لله عز وجل " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله" ـ الفتح 10 ـ .
والملاحظ أن نزول الآيات التشريعية أو آيات الأحكام كان في الغالب بمناسبة حدث أو قضية اجتماعية تتطلب علاجاً، أو للإجابة عن سؤال موجه للرسول من أفراد أو جماعات، وهو ما يعرف بـ"أسباب النزول" مما لا يمكن معه الفصل بين التنزيل وأسبابه ويقتضي إدراكه في التفسير وتفهم الأحكام الشرعية بعلتها وحكمها معاً. وقد حدت تلك الظاهرة بوصف "الحكومة" في عهد الرسول بأنها كانت أقرب إلى الاحتكام "فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" ـ المائدة 5 ـ ، وروعي في الفصل بين الخصومات نوع من الاختيار وطواعية التنفيذ "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً فيما قضيت ويسلموا تسليماً " ـ النساء 65 ـ كما روعي في التشريع السهولة وعدم الضيق "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" ـ البقرة 185 ـ " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر" ـ القمر 17 ـ وتقليل الأعباء "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" ـ البقرة ـ285 فضلا عن التدريج والتدرج في التشريع لمسايرة تطور الجماعة الإسلامية ومدى تغلغل العقيدة في النفوس، فكان الناسخ والمنسوخ مراعاة لطريقة تشكل النسيج الاجتماعي وحركة تطوره .
![](https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEhJGQX5JjaDlxm3MlL6WS4Oi9MZ6RchY_SDZrXAJPJLlnE_Np_wHLuLPKsFzlkTx3DrYbNnkiQXYjdPS2UQaW5oEh8QtdGO-MGPwtu4uY3Yhz-8ysWFQmd3GKKExLtEtPs2YHQ220jcQ-s/s1600/%D9%88%D9%8E%D8%A7%D9%84%D9%91%D9%8E%D8%B0%D9%90%D9%8A%D9%86%D9%8E+%D8%A7%D8%B3%D9%92%D8%AA%D9%8E%D8%AC%D9%8E%D8%A7%D8%A8%D9%8F%D9%88%D8%A7+%D9%84%D9%90%D8%B1%D9%8E%D8%A8%D9%91%D9%90%D9%87%D9%90%D9%85%D9%92+%D9%88%D9%8E%D8%A3%D9%8E%D9%82%D9%8E%D8%A7%D9%85%D9%8F%D9%88%D8%A7+%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%91%D9%8E%D9%84%D9%8E%D8%A7%D8%A9%D9%8E+%D9%88%D9%8E%D8%A3%D9%8E%D9%85%D9%92%D8%B1%D9%8F%D9%87%D9%8F%D9%85%D9%92+%D8%B4%D9%8F%D9%88%D8%B1%D9%8E%D9%89%D9%B0+%D8%A8%D9%8E%D9%8A%D9%92%D9%86%D9%8E%D9%87%D9%8F%D9%85%D9%92+%D9%88%D9%8E%D9%85%D9%90%D9%85%D9%91%D9%8E%D8%A7+%D8%B1%D9%8E%D8%B2%D9%8E%D9%82%D9%92%D9%86%D9%8E%D8%A7%D9%87%D9%8F%D9%85%D9%92+%D9%8A%D9%8F%D9%86%D9%92%D9%81%D9%90%D9%82%D9%8F%D9%88%D9%86%D9%8E.jpg)
وهكذا كانت حكومة النبي ، إن صح إطلاق هذا المصطلح، حكومة الله المؤسسة على ما جاءت به الشريعة على مختلف الصعد والمبادئ، النبي فيها هو الحاكم المرسل من الله، يلجأ إليها الناس مختارين طائعين " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" فيكونوا عند مسؤولياتهم في التنفيذ. وتتفق هذه المبادئ وآلية العلاقة خارج المدينة حيث اعتمد الرسول على ما يمكن تسميته "اللامركزية" في صلته بالمسلمين.
وبوفاة النبي (ص)، انتهت مرحلة " حكومة الله " أو حكومة الدعوة كما يسميها "محمد سعيد العشماوي"، لتبدأ " حكومة الناس " في عهد الخلفاء الراشدين (3) ، على نهج من العهد السابق وخطى الرسول وطاعته للمضي في تأسيس دولة إسلامية مركزية واحدة.
عصر الخلفاء الراشدين:
تحكمت عوامل عدة في بيعة أبي بكر للخلافة، وحسم فيها الخلاف بين المهاجرين والأنصار وبين النص والاختيار أو الأفضلية بين الصحابة. وكان اختياره "جريا على سياسة التوازنات وميزان القوى" كما يشير إليه "محمد عابد الجابري"، لازما في ظروف استشرت فيها نذر الردة على الإسلام في تهديد حقيقي لبناء العقيدة واستمرارها(4) ، مما كان حاسماً في التكاتف مع الخليفة وتأييده، ولما جاء العباس ليخبر ابن أخيه علي ابن أبي طالب بما يدور في السقيفة ويحثه على طلب البيعة لنفسه ، أبى علي الانصراف عن جسد النبي لتغسيله وتجهيزه للدفن والصلاة عليه، ولما حضر عنده أبو سفيان يعرض عليه مبايعته ضد أبي بكر، كان حاسماً في رده وهو يجيب " إنا رأينا أبا بكر لها أصلاً، إنما تريد الفتنة " (5) ، ولم يكن حينها متاحاً باستثناء اختيار شخص الخليفة، تحديد مدة ولايته أو اختصاصاته ولا المجادلة في إقرار طريقة البيعة لتكون تقليداً مستمراً من بعده.
وفي سعيه الأول لإرساء عنوان نموذجي لتنهيج الخلافة، خطب أبو بكر عند مبايعته يقول: "إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فان رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فسددوني"، فصارت هذه المعاني شعاراً لمرحلة الخلافة الراشدية بأسرها. وعندما قيل له "يا خليفة الله" أنكر للخلافة هذا المصطلح ورفضه على اعتبار "إنما أنا خليفة رسول الله" (6) . فكان عهد ابي بكر بذلك قد شهد التاريخ الحقيقي لميلاد مصطلح الخليفة تعبيرا سياسيا عن الحاكم ، ولم يرد في مكاتبات ابي بكر ووثائق تلك الفترة لقب آ خر غيره .
وكان أول أعمال ابو بكر إرسال جيش أسامة بن زيد بن حارثة الذي جهزه الرسول قبيل وفاته لقتال الروم خارج الجزيرة العربية. وقد أصر أبوبكر على تنفيذ إرادة الرسول وإنفاذ أسامة رغم تردد الكثيرين، ورغم التهديد الذي كان ممكناً تعريض المدينة له بمفارقة الجيش عنها في وقت متأزم حرج. ونجده هنا يقول: "والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله، ولو أن الطير تخطفتنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة" (7 .).
وجمع أبوبكر في فترة حكمه القصيرة بين الرفق والأناة والكياسة والعفة والزهد ولم يعوزه الحزم المقتضى . فقد باشر حكمه أميراً للحرب فادار عملية ناجحة في التصدي للردة على الإسلام بعد ان استقطبت قبائل الجزيرة التي وجدتها فرصة لفك ارتباطها بالمدينة والمركزية التي لم تعتد عليها بعد ، وتوجه بالفتح فابتدأت في عهد خلافته مرحلة الفتوحات الإسلامية الكبرى . وعندما توفي، وفي وصف بليغ لشخصه وسجاياه، نسب الى علي بن أبي طالب قوله في تأبينه "كنت كالجبل الذي لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا في بدنك قوياً في أمر الله، متواضعا في نفسك عظيماً من الله، جليلا في الأرض كبيراً عند المؤمنين، ولم يكن لأحد عندك مطمع، ولا لأحد عندك هوادة، فالقوي عندك ضعيف حتى تأخذ الحق منه، والضعيف عندك قوي حتى تأخذ الحق له، فلا حرمنا الله أجرك ولا أضلنا بعدك"(8). وينقل عن" الزمخشري" قولا آخرا لعلي في الثناء على ابي بكر يصفه فيه باليعسوب امير النحل الذي تنقاد اليه ويقوم بمصالحها :" كنت للدين يعسوبا اولا حين نفر الناس منه"(9).
وتتعدد الروايات عن طريقة استخلاف الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، وتقر معظمها ان ابا بكر لم يكن راغبا بادئ الأمر بالعهدة بنفسه الى احد بالخلافة من بعده بل ترك ذلك للناس ، لكن الصحابة اختلفوا حول شخص الخليفة فلم يكن لديهم خيار سوى الرجوع بخلافاتهم الى ابي بكر وقد اثقل عليه المرض ، فما كان منه غير اخذ عهد الله عليهم بالرضا بقراره ، فقبلوا بذلك وبايعوا من سماه خليفة .
وبعد مبايعة عمر بن الخطاب، وعلى النهج ذاته في إقرار حق الاعتراض وحق تقويم الناس للخليفة، خطب يقول :" أيها الناس، إني قد وليت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم، وأقواكم عليكم، وأشدكم استضلاعاً بما ينوب من مهم أموركم ما توليت ذلك منكم" (10) . وفي تحديده لهوية الحاكم، استثقل دعوته "يا خليفة، خليفة رسول الله" واستحسن عبارة أخرى هي "أمير المؤمنين" لأنه وجد فيها تعبيراً أشمل عن طبيعة مهامه الدنيوية في قيادة المجتمع الناشئ وادارة حروب الفتح والتي حققت انتصاراتها النوعية الكبرى في عهده.ولعل الأقرب في ترجيح ذلك اللقب ، انه يتوافق ومهمة إمارة جيوش المؤمنين في جهادهم من اجل الإسلام(11).
وتسجل الروايات وقائع نموذجية عن سجايا عمر ومسار عهده ، فقد وقف مرة خطيباً يتحدث عن دور الرعية في صلاح الحاكم واصلاحه فقاطعه أعرابي قائلا: "والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا" فانبسطت ا أسارير عمر وتوجه إلى الله شاكراً ليقول كلمته المأثورة:"الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقومه بحد السيف إذا أخطأ". وفي واقعة أخرى وهو يدعو الناس إلى الطاعة "إسمعوا وأطيعوا" ينبري له أعرابي ليقول: "لا سمع لك علينا ولا طاعة حتى تخبرنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به" ولا يغضب عمر بل يقر حق الاعتراض ويجيب السائل على سؤاله ويشرح له الحقيقة حتى يقتنع ويقول: "الآن مر فنسمع ونطيع" (12) . ولاغرو ان الخليفة عند عمر ، بشر لا ينوب عن الله ، هو ان احسن أعانوه ، وان ا ساء قوموه . وينقل الطبري حديثا لعمر يعبر فيه عن فهمه لطبيعة المنصب الذي تولاه ، يقول فيه :" اني والله ما انا بملك فاستعبدكم ، وانما انا عبد الله عرض علي الأمانة " (13) . وروى عن حسن البصري ، ان رجلا قال لعمر :" اتق الله ياعمر ، واكثر عليه ، فقال قائل ؛ اسكت فقد أكثرت على أمير المؤمنين ، فقاطعه عمر ؛ دعه لاخير فيهم إن لم يقولوه ، ولا خير فينا إن لم نقبل " (14) .
![](https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEi4N7h0nyjY9oB4IprE8O24WORcZhKJUgkj22W9BWpgPHS0TQb6hfNHigRUhNnO06bTWFEoC9NN83L-7fEpHme4VO_e2IRXcgwfwkhykOCAOuoMN-7yviAwx1CvYvRVZOvCn3W9h2aPjVY/s1600/%D9%84%D8%A7%D8%AE%D9%8A%D8%B1+%D9%81%D9%8A%D9%87%D9%85+%D8%A5%D9%86+%D9%84%D9%85+%D9%8A%D9%82%D9%88%D9%84%D9%88%D9%87+%D8%8C+%D9%88%D9%84%D8%A7+%D8%AE%D9%8A%D8%B1+%D9%81%D9%8A%D9%86%D8%A7+%D8%A5%D9%86+%D9%84%D9%85+%D9%86%D9%82%D8%A8%D9%84.jpg)
وتتوارد مسألة استخلاف عمر بعد طعنه ، انه كان بمشورة استجاب فيها لطلب عدد من الصحابة بالوصية ، ففوض أمر تعيين الخليفة من بعده الى ستة من كبار الصحابة ، ودون أن يكون بينهم ابنه عبد الله و ا نما جعله شاهدا " ليس له من الأمر شئ ... " واضعا شروطا بدت حدية قسرية تمنع الاعتراض للحيلولة والفرقة المدمرة في تلك الظروف الدقيقة . ويروي " ابن ابي الحديد " ، ان عمر لما طعنه ابو لؤلؤة ، وعلم اقتراب اجله ، استشار فيمن يوليه الامر بعده ، فاشير عليه بابنه عبد الله ، فقال :"لاها الله ؛ لايليها رجلان من ولد الخطاب " ثم قال :" ان رسول الله مات وهو راض عن هذه الستة من قريش : علي ، وعثمان وطلحة، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمن بن عوف، وقد رأيت ان اجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم "(17).
وبعد ان استشهد عمر بمؤامرة، تفاعلت فداحة الخطب وانعكست بشدة في مرحلة تالية. وكان علي ابن أبي طالب أول المدركين لمقدار الخسارة ، فخاطب الجسد المسجى على فراش الموت، " والله ما خلفت أثراً أحب إلى أن ألقى الله تعالى بمثل عمله منك يا عمر" ، كما نسب الى علي وصفه لموت عمر يقول فيه" إن موت عمر ثُلمَة في الإسلام لا تُرْتَق الى يوم القيامة "(18).
ثم كان مجيء عثمان بن عفان، بعد خليفة من مثل عمر، قد حمله أعباء إضافية صعبة في وقت استشرت فيه الفتن من مفرزات المؤامرة التي قتلت السلف، وكثر الطامحون في الميراث في ظروف تنامت فيها الحاجات المستجدة لإدارة المجتمع والدولة بعد أن أصبحت أكبر حجماً وأكثر اتساعاً. وكانت النقلة النوعية في هذا العهد أن مفهوم السلطة بدأ بالتحول من حق اجتماعي للناس إلى حق الهي للحاكم، واتجه مفهوم الحقوق من العامة إلى الخاصة، فغلبت القرابة على الكفاءة ، وتهيأت طبقة أرستقراطية إقطاعية جديدة لوراثة إقطاع بلدان الفتح واستلام زمام الملكية والسلطة في الدولة العربية الإسلامية بمحاورها السياسية والإيديولوجية. وشهدت التحالفات التي سعت إليها الطبقة الجديدة، أول محاولات كبح النهج العقائدي الثوري الذي قاده الرسول وأبوبكر وعمر من بعده. وقد ساهمت مرحلة عقد ونصف تقريبا من عمر السلطة النافذة لخلافة عثمان ، في حسم التحولات لصالح مد سياسي اقتصادي اجتماعي لاحق، وكان لإثرة القرابة وامتياز الخاصة في توزيع المناصب والاقطاعات ، دور هام في ترجيح ذلك التبدل ، سواء في خضم تنافس المصالح المتنامية الجديدة ، أم في حمأة الصراع الذي تفجر بين نقيضين، يقف في جانب منه مسلمون عقائديون أصحاب رسالة تغلب فيهم ما عداها، وفي الجانب الآخر أصحاب المصالح الذين تسلم قيادهم ملأ قريش التقليديون . وبين الطرفين اختلطت الأوراق، وضاعت معالم كثيرة للحقيقة بقصد أو بدونه، فتداخلت الحدود بين متربص محرض أو مدفوع وبين ثائر أو متمرد مقموع أو مغلوب على أمره.
وفي ظروف مثالية لاكتساب مواقع طبقية جديدة، وبعد أن استنفذ الخليفة دوراً لم يكن بالتأكيد يريده أو يقصده كصحابي جليل له سبق في الإسلام، تسارعت الأمور نحو تلك الفاجعة المثيرة التي انعكست على مجمل التاريخ الإسلامي، وأدت إلى مقتل عثمان رغم استبسال أبناء كبار الصحابة في الذود عنه (19).
وإذ يذكر المؤرخون أن عثمان استخدم لأول مرة مصطلح "خلافة الله" أثناء حصاره في داره في واقعة قوله "إما أن أتبرأ من الإمارة فان يكبلوني أحب إلى من أن أتبرأ من عمل الله وخلافته"، ورغم أن التطورات المتلاحقة بدت متسقة وهذا المبدأ في الحق الإلهي للحاكم، فان الأقرب أن استخدام التعبير كان مجازياً لم يقصد به عثمان شخصيا استخلاف الله، مما لم يرد في سياسة الخلفاء الراشدين وسجايا عثمان نفسه.
بعد مصرع عثمان، حكمت الفوضى المدينة عاصمة المسلمين، وظلت الدولة دون خليفة خمسة أيام حتى وافق علي ابن أبي طالب على مبايعته بعد تردد في زمن جهم بالغ الصعوبة والتعقيد (20) ، أشرف فيه المجتمع على مخاض كان يمكن أن يكون مهلكاً للعقيدة، وتحركت المصالح ومراكز القوى للاستئثار بالسلطة والنفوذ مع بداية الانقسام الاجتماعي إلى مراتبية طبقية على أساس الثروة والجاه، وقد احتدم فيها تنازع الولاءات والعصبيات والرغبات المكبوتة للارتداد على الإسلام الذي لم يزل غضاً بعد.
وتحددت بتلك الظروف العصيبة خيارات الخليفة الجديد باذلاً أقصى الممكن من شخصه وتاريخه ، لاستعادة حيوية الإسلام الرسولي ، والإبقاء على ديمومته، واضعاً سائر المسلمين أمام مسؤولياتهم في إدراك صعوبة المرحلة وحماية المجتمع، فهو يقول للناس في خطبته بعد البيعة "أن الله سبحانه وتعالي أنزل كتاباً هاديا يبين فيه الخير والشر، فخذوا نهج الخير تستهدوا واصدفوا عن سمت الشر تقصدوا، الفرائض أدوها إلى الله تؤدكم إلى الجنة، إن الله حرم حراماً غير مجهول وأحل حلالاً غير مدخول، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، ألا يحل أذى المسلم إلا بما يجب. بادروا أمر العامة... اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، وأطيعوا الله عز وجل ولا تعصوه" (21).
وفي مواجهة الفتنة التي تفجرت مجددا في تهديد حقيقي للإسلام حدد علي منهجه و طريقته "إن سأمسك الأمر ما استمسك، وإذا لم أجد بداً ، فآخر الدواء الكي" (22) ، مدركا لمسؤولية الامة من جهة ، ومسؤولية الحاكم من جهة اخرى :" إنكم بايعتموني على ما بويع به قبلي ، وا نما الخيار للناس قبل البيعة ، فان بايعوا فلا خيار لهم ، ألا وان عليَّ الاستقامة وعلى الرعية التسليم " (23) ، مشخصاً هوية الأحداث : "إنما بدء الفتن أهواء تتبع" (24) . وأطلق شعاره في الخلافة صريحاً واضحاً : "إن في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور أضيق" داعياً الناس : "أوصيكم بتقوى الله" محذراً من "سكرات النعمة وبوائق النقمة" (25) . والناس في الحقوق لديه سواء لامحاباة لقوي ولا إجحاف لضعيف، ومن أوليات سياساته حماية حقوق المسلمين ومصالحهم بالفسطاط . فعمد إلى القطائع التي وزعت قبله على المقربين والخاصة فانتزعها من القابضين عليها وردها إلى مال المسلمين لتوزيعها بين من يستحقونها على سنة المساواة (26).
وراقب الولاة وحاسبهم حيث "الامارة أمانة" كما خاطب به رفاعة بن شداد، وكما كتب لعامله على مصر مالك الأشتر يقول : " فليكن أحب الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح ،، فاملك هواك وشح بنفسك عما لايحل لك ، فان الشح بالنفس الانصاف منها فيما أحبت وكرهت، وأشعر بقلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم والعطف بهم.. فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فانك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك"(27) . ونراه يردد تكراراً وهو يدعو للعقيدة أن "انتفعوا ببيان الله".
وقدم أمثلة متتالية في قدوة الزهد والتقشف والتعفف والبساطة المتناهية دون إهمال لمهامه القيادية:" أأقنع نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش.. . وأترك سدى وأهمل عائباً أو أجر حبل الضلالة أو أعتسف طريق المتاهة"(28).
وتشير بعض المصادر الى ظهور مصطلح " الإمامة " مرادفا للقب "امير المؤمنين " في عهد علي بن ابي طالب ، بينما ترى مصادر اخرى ، ان استخدامه جاء في فترة متأخرة . والأصل في هذا المصطلح يرجع الى " إمامة الصلاة " وقد ظل يقترن بمنصب سياسي قيادي حينا ، وينفصل عنه كمنصب ديني فحسب . أي انه تعبير عن رئاسة دينية بينما" الخلافة رئاسة سياسية للدولة . والأرجح ان تداول هذا اللقب وذيوعه قد حدث في فترات تالية لعهد الخلفاء الراشدين بعد ان تبنى استخدامه التيار الطالبي او العلوي مما تأثر به العديد من المفكرين الإسلاميين للتعبير عن صفة رئيس الدولة او رئيس الجماعة او الفرقة السياسية والفرقة المذهبية .
وبغض النظر عن تاريخ استخدام مصطلح " الإمامة " ، جمع علي بن ابي طالب بين الخلافة والفكرة العالمية للدولة الإسلامية حيث لاعصبية وتعصب لغير الإسلام والناس سواسية ولا تفضيل بغير التقوى، وإن " آدم لم يلد عبداً ولا أمة ، إن الناس كلهم أحرار " . وكان في منتهى الأناة والتعبير والألم في مجابهة خصوم ليس لبعض منهم محمل في مخاصمته. فلم يقاتل أحدهم البتة إلا بعد شروعهم في قتاله. ولما وقف على جثة خصمه طلحة بن عبيد، بكى أحر بكاء وجعل يمسح التراب عن وجه طلحة مردداً " لقد أصبح أبو محمد بهذا المكان غريباً (29) ، ويقول "عزيز علي أن أراك أبا محمد مجندلاً تحت نجوم السماء" (30) . وكم كان معبراً في مقته للمكاسب الدنيوية، وهو يخاطب زمانه "يا دنيا غري غيري...غري غيري".
وتردد ، انه لم يوص لاستخلافه ، بل رفض ذلك عندما جاء القوم يستفتونه ان فقدوه، بعد ان اشتدت جراحه اثر طعنة " عبد الرحمن بن ملجم " ، فكان جوابه :" لا آمركم ولا أنهاكم " فاعادوا القول عليه ، فرد عليهم :" انتم ابصر " وكان ذاك آخر عهدهم به (31).
كانت المرحلة تقتضي رجلاً مثل علي بن ابي طالب ، للحفاظ على الإسلام ، وقد أراد للقدوة أن تظل هي الباقية تحفظ الجوهر وتقهر عوامل الضد التي تراكمت لتظهر على السطح دفعة واحدة، مدركاً أن تهديد الصراعات للعقيدة برمتها يقتضي المجابهة الحاسمة بسلاح العقيدة نفسها وتغليب المبادئ بمنأى عن سياسات المصالح الذاتية أو المؤقتة، وكم من سياسة ضمن النأي فيها عن العقيدة بقاء الحاكم ، فكان خيار علي ضروريا للإبقاء على العقيدة.
عند استشهاده وعندما علمت عائشة بنت أبي بكر زوجة الرسول قالت وقد هالها المصاب: لتصنع العرب ما شاءت فليس لها أحد ينهاها"(32) . وفي القول تمييز بليغ لمرحلتين فاصلتين .
وهكذا طويت بمصرع علي آخر صفحة للإسلام الرسولي ولعصر الخلفاء الرا شدين في الحكم والرئاسة، وكانت آخر محاولة للاحتفاظ بمسيرة التحالف الطبقي للثورة الإسلامية لتطل مرحلة أخرى مختلفة.
وبذلك تخطى علي بن ابي طالب المرحلة الحرجة التي هددت بقاء الإسلام تهديدا حقيقيا ، فكان له الدور الأثير في تلك الديمومة التي اتخذت من الإسلام في المراحل التالية، عنواناً للدولة وهوية للمجتمع في تطوره وحركته نحو التقدم ، وبذلك تحددت ضرورة علي للتأسيس اللاحق مقدمة لدور الآخرين .
العصر الأموي:
كان معاوية بن أبي سفيان أول الحكام الأمويين وأول ملك للعرب بين المسلمين ، بعد أن أوصل "قميص عثمان" بني أمية إلى السلطة . وبكفاءة منقطعة النظير، كرجل دنيا وسياسة وحكم ، استثمر معاوية التناقضات القائمة وحركة الأضداد بأسلوب سفياني "ميكافيلي" اختص به لبناء مجتمع انفصلت فيه الدولة عملياً عن الدين رغم هويتها الدينية المعلنة والشعارات التي تبنتها، وقيام سلطتها باسم الإسلام لتولي مهام تنفيذ الأحكام باعتباره مصدراً للتشريع، وهي خيارات لم يكن مناص عنها ، بل استلزم استثمارها بأقصى قدر من الممكن لبناء دولة عصرية ورفد زخم تطورها النوعي .
وحيث الخصائص الاجتماعية والسياسية المتغيرة أصبحت مختلفة عما كانت عليه في العهد الإسلامي السابق، صار مطلوبا الإفادة من عصبيات إضافية لحصانة الحكم مرافقة للتعصب للعقيدة الإسلامية أو بديلاً عنها.ففي حقبة نوعية تسارع فيها تطور الأحداث، استطاع معاوية بسياسات بارعة متنوعة الأساليب ، تأسيس ملكية وراثية أنهت عصر الخلفاء الراشدين واستمرت نحو تسعين عاماً ، وهي فترة قصيرة نسبيا بالقياس لما أنجزته وأحدثته في الواقع العربي الإسلامي، فنجحت بإرساء دعائم السلطة الأرستقراطية المستبدة ودولة القوة في إمبراطورية مركزية كبرى.
لقد أدرك معاوية أن قيام الملك بعد الخلافة أمر لابد منه لبناء الدولة واستقرارها، واستوعب حركة المتغيرات، وضرورات المرونة والتنوع في التعامل حسب الظروف، بين القسوة والصرامة، والحلم والدهاء، مما كان يعبر عنه: "اني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني" ، و نجده في ترجمة أخرى لهذه السياسة يقول: " ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت" فسأله بعضهم: "وكيف ذلك...؟" فقال: "كنت إذا مدوها أرخيتها وإذا أرخوها مددتها" (33) . وخطب يوما: "والله لا أحمل السيف على من لاسيف له، وإن لم يكن منكم الا ما يستشفي به القائل بلسانه فقد جعلت ذلك دبر اذني وتحت قدمي" ، ويوجه قومه: "يابني أمية فارقوا قريشاً بالحلم، فوالله كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتماً وأوسعه حلماً، فارجع وهو صديق لي، إن استنجدته أنجدني وأثور به فيثور معي، وما وضع الحلم عن شريف شرفه ولازاده الا كرماً".
وخلاف الحلم، كان يجابه الخصوم الذين يهددون الحكم بأقسى العقوبة فلا يتحرج "بقتل حجر بن عدي ، على إيمانه وزهده ، حتى لايعبر الخيط الرفيع بين معارضة الحكم ومحاربته، وبين الاعتراض على الحاكم والثورة عليه، لأن القضية أضحت لديه " حكم أو لاحكم، وسلطة أو لاسلطة وهيبة أو لاهيبة" كما يعبر عنه " فرج فودة (34) . وعندما يقول له إعرابي ، على غرار ما حدث لعمر بن الخطاب؛ "والله لتستقيمن بنا يامعاوية أو لنقومك"، يقاطعه معاوية بحزم وقد بدت عليه ملامح الغضب أن "بماذا....؟" فيتراجع الأعرابي بعد أن يرى حال معاوية فيجيب "بالخشب....!" عندئذ تنبسط أسارير معاوية فيعقب قائلا "إذن لنستقم" وبذلك يكون قد حسم الموقف ، وتنتهي المواجهة عند ذلك الحد ، بعد ان صار السلاح من "خشب " .
وفي المقابل ، وكما أوصل قميص عثمان الأمويين إلى السلطة ، أوصل قميص الحسين بن علي المعارضات المتتالية إلى التمرد والثورة ، فكان حضور الطالبين مستمرا فاعلا في بنية معظم الحركات التي خرجت على السلطة طوال العهد الأموي ، وبذلك تحددت مجريات الصراع بين السلطة الحاكمة في جانب ، والمعارضة في الجانب الآخر، وبالتضاد بين الطرفين تحرك المجتمع في مدارج التقدم .
وفي نقلة جديدة جعل معاوية بن ابي سفيان حق الملوك مقدساً في الحكم ، منطقه في ذلك: "الأرض لله وأنا خليفة الله ، فما أخذت لي وماتركته للناس فبالفضل مني" (35).
وفي اطار ايديولوجية "خلافة الله" سعى الأمويون إلى تشجيع مبدأ "الجبرية" الذي يعتبر ما يحدث أمراً مفروضاً مسبقاً من الله تعإلى، فأظهر معاوية أن مايأتيه بتدبير من الباري وصنعه، وقد جعله إماماً وولاه "نحن خلفاء بقضاء الله وقدره"،" ويعبر عن ذرائعية تلك القاعدة فيقول:" لو لم يريدني ربي أصلا لهذا الامر ما تركني واياه ، ولو كره الله تعالى ما نحن فيه لغيَّره " . وعلى هذه القاعدة، استمرت نظرية الحكم عند أخلافه.
وضماناً لاستقرار السلطة وكبح مراكز القوى في التنافس عليها ، وبقوة السيف ، إستن معاوية وراثية الخلافة وبجهود مضنية لاثبات مشروعيتها ، وبمسوغات يستند بعضها إلى جواز انفراد الامام أو الخليفة بالبيعة لولد أو لوالد، لأنه أمير الأمة نافذ الأمر عليهم، وأن حكم المنصب يغلب على حكم النسب ، مما لاسبيل للاعتراض عليه أو التشكيك بامانته (36). وكانت احدى الذرائع التي استند اليها الامويون في التوريث، استخلاف الرسول لزيد بن حارثة على جيش مؤته ، على اعتبار ان المصلحة اقتضت ذلك ، بغض النظر عن نسبه وفتوته ومن بإمرته (37) . وانسجاماً مع مبدأ "الجبر" في مشروعية الحكم خطب معاوية للرد على معارضات تولية ابنه يزيد : "وإن أمر يزيد قد كان قضاء من الله وليس للعباد خيرة في أمرهم".
ومع تتالي الخلفاء الأمويين استقر الحق الإلهي الوراثي للخلافة على قاعدة الاستبداد والفردية، وأصبحت السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية مرتبطة مباشرة بالخليفة، الذي يباشر سلطاته من قصره المحاط بصنوف الأبهة والفخامة كمظهر من مظاهر هيبة الدولة، يعاونه تابعون من ولاته وقواد جيوشه وموظفيه من حجاب وأصحاب دواوين وغيرهم.
وانتهت حرية المعارضة والنقد على التوالي، فوجدنا الخليفة عبد الملك بن مروان في خطابه في المدينة بعد مقتل عبد الله بن الزبير، مهدداً من يخالف الحاكم فيقول : "والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه".
لكنه ، وفي ظاهرة نوعية ، وجدنا عمر بن عبد العزيز عندما ولي على المدينة، قبل خلافته ، شرع بتكوين مجلس محلي للشورى تعلو سلطته سلطان الوالي ، واعطى له سلطة مراقبة التعدي ومشاورة الوالي الذي لا يقطع بأمر دون تلك المشورة ، لكن هذه الظاهرة لم تكن متسقة وآلية إدارة الحكم بمرتسماتها وقواعدها في الحقبة الاموية ، فلم يتسن لها الاستمرار.
وهكذا ، وباستثناء فترة قصيرة من خلافة عمر بن عبد العزيز، كانت المسافة تتسع بين نهج الحكم في عهد الرسول والخلفاء الراشدين، والنهج الأموي الذي تلاه، واشتدت القسوة ضد أية مطالبة بالرجوع إلى النهج الأول ، ولم يعد متاحاً استعادة السير الإسلامية الأولى حتى لمجرد الذكر. فعندما وجد عبد الملك بن مروان بعض أصحابه يذكرون سيرة عمر بن الخطاب رد عليهم بقوله "حسبكم من ذكر عمر فانه ازدراء بالولاة ومفسدة للرعية"(38) ، ويسارع واليه الحجاج الثقفي للترويج لها، معتبرا " الحديث عن سيرتي أبي بكر وعمر خروج على أمير المؤمنين ".
وبغض النظر عن تقويم الأفكار والمبادئ التي انتهجتها الدولة الأموية ومدى تواصلها مع الإسلام الأول، فان تلك الدولة كانت خطوة متقدمة تاريخياً نحو شكل من أشكال التحول الكيفي الذي هيأ لمرحلة تالية في المنطقة العربية والبلاد الإسلامية، وقد استطاعت تلك الدولة إقامة أطر سياسية مناسبة بمنظومة من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وحمايتها. فساهم التناقض الناشئ عن تلك العملية في نهوض حركة التضاد الحيوي في أحداث إضافات ومظاهر فكرية نهضوية أتاحها الإسلام بالأساس بتغييره لوعي الناس وصياغة آفاق رحبة لتطور المجتمع.
وكان لازما لتحقيق تلك المهام وإنشاء دولة القوة بظروفها آنذاك، اتباع سياسات تقليدية وغير تقليدية، بدت مشكلتها الأساسية أنها ظلت متماثلة دون تغيير يذكر خلال عمر الدولة، فأضحى النهج ذاته، أدنى لمواكبة التغيرات أو استيعاب ردود الأفعال المجتمعية الممكنة، وبذلك كان لتلك السياسات دور مزدوج، لبناء الدولة وصعودها من جهة ، ولتداعيها لاحقا من جهة أخرى ، وان صعدت تالياً حالة أموية إقليمية استثنائية بديلة أكثر رقياً في الأندلس.
وبانهيار الحكم الأموي ، تهيئة لتأسيس سياسي حضاري جديد، ورث الحكم سريعاً البيت العباسي دون فواصل زمنية اجهاضية، فكان استمرارا لعهد آيل وبحيوية متجددة بدت ضرورية لذلك التأسيس.
العصر العباسي:
كما انتهج معاوية، باشر العباسيون مهامهم بسياسات سفيانية دنيوية لبناء قوة الدولة وجبروتها، وتعاملوا مع الوقائع والخصوم بذرائعية " حقهم الإلهي " في توارث السلطة "خلفاء الله في الأرض " ، فبادر أول الخلفاء العباسيين، أبو العباس السفاح ، إلى الإعلان "إن الخلافة عادت لمن هي حق له"، وأنهم "سيحكمون بما أنزل الله" وسعوا إلى أحاديث منسوبة للرسول الكريم في إثبات حقهم في الخلافة دون آل البيت الآخرين (39) . وقام " السفاح " بتجديد المناهج والسياسات مخاطباً الناس "أنا السفاح المبيح والثائر المنيح" ، فحمل المصطلح مضامين التهديد والقاء الرعب ، رغم الخلاف حول مجازية معناه . وأفرط الخليفة في سفك الدماء، فبالغت السلطة في إفزاع سائر الخصوم وإشهار الخوف، واستئصال شأفة الأمويين في عمليات إبادة شاملة لم ينج منها غير من هرب للأندلس، وإذا كان "الحلم مفسدة كان العفو معجزة" كما صرح به الخليفة العباسي الأول ، وبذلك ، اختتمت الصفحة الأموية المشرقة بمجزرة مريعة قتل فيها آخر أفراد البيت الأموي بوليمة دعوا إليها، ثم فرشت النطع فوق الأجساد المهشمة التي ظل بعضها ينازع ليمد عليها الطعام ، وقد انفرجت أسارير الخليفة.
ثم جاء المنصور، وهو المؤدلج الأبرز ، والباني الحقيقي الأول ، لمجد الدولة العباسية، مستهلاً عهده بمأثور جبري آخر ظل يردده "أنا سلطان الله في أرضه أ سوسكم بتوفيقه ورشده"(40) ، وكانت ترجمة هذا المبدأ قسوة متناهية، يقول في تسويغها "لأن بني مروان لم تبل رحمهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم، ونحن بين قوم قد رأونا أمس سوقه واليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا في صدورهم الا بنسيان العفو واستعمال العقوبة" (41) ، و يحدد للمعارضة خطوطاً حمراً يمتنع اتيانها ، حيث "الملوك تحتمل كل شيء الا ثلاثة خلال:" إفشاء السر والتعرض للحرم ، والمقدح في الملك" ، ويعمد المنصور ، إلى صياغة مبدأ " شعرة معاوية" بمضمون آخر مفاده "إن عدوك إذا مد إليك يده فاقطعها إن أمكنك ، وإلا فقبلها" (42) وتنامت لديه مشاعر "الأنا" عن دور وجد نفسه مهيأ له، مما ترجمه قوله "إن الخلفاء أربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، والملوك أربعة: معاوية وعبد الملك وهشام وأنا" (43).
وبإستثناء حرية نسبية للتفقه اقتضتها الهوية الدينية المعلنة للدولة ، شريطة عدم مجاوزة الخطوط التي تهدد أمنها ، لم يسلم من البطش في سياق تلك المفاهيم حتى من حاول المشورة، فقتل ابن المقفع شر قتله في واقعة مشهورة، بعد أن أرسل له الأخير كتاباً أسماه "رسالة الصحابة" كمن يريد الصلاح للخليفة ، بحثه على حسن انتقاء معاونوه وولاته. لكن المنصور وبدلاً من تثمين النصيحة، أمر بابن المقفع فقطعت أطرافه قطعة قطعة وشويت على النار وأطعم إياها قسراً، عقوبةً له لمجرد إبداء النصح.
وعلى الرغم من عدم شيوع مصطلح " الملك " لوصف رئاسة الحاكمية ، فان الاشارة الاولى لاستخدامه وردت في خلافة هارون الرشيد ، وهو يقول عن نفسه مخاطبا محمد بن إبراهيم :" يا محمد ، انا معشر الملوك اذا غضبنا على احد من بطانتنا ثم رضينا عنه بعد ذلك، بقي لتلك الغضبة اثر لا يخرجه ليل ولانهار " . كذلك وان قامت " مدرسة " الخلافة العباسية على مبدأ " خلافة الله " ، فان استخدام هذا المصطلح ظل غير شائع حتى مجيء الخليفة المعتصم الذي اذاع استخدامه .
في جانب آخر ، شجعت الدولة عددا من الفقهاء للتصدي للخصوم ومناظرتهم بخطاب ديني ، حتى كان اعتناق الدولة رسميا لمذهب الاعتزال الاصلاحي في عهد الخلفاء المأمون والمعتصم والواثق ، تحولا حقيقيا ، ساهم بتحقيق منجزات عصر النهوض العباسي ، لكن ذلك التحول لم يكتمل او يبلغ مداه بعد الانقلاب المضاد في عهد الخليفة المتوكل . فعاد الفقه ليسهب في تسويغ " طاعة ولي الامر " وعدم جواز مخالفته ، ومشروعية انعقاد الخلافة " بالقهر والغلبة" ، ونشط القائلون بنظام " الغلبة " كي لا ينقلبوا على مبدأ الخلافة " بالاختيار " ، إذ تصبح ولاية " المتغلب بالسيف شرعية , وهي " عدل بذاته " ، وجرى تقريب بعض المذهبيات او استبعاد اخرى، وفقا لتلك القاعدة .
وهكذا ومع تنامي "تسييس الديانة" انبرى التثقيف الفقهي في لزوم طاعة ولي الأمر بغض النظر عن سياساته وطريقته في الحكم . وإذ بدت تلك المفاهيم ضرورية حينها ، لبناء قوة الدولة ، ومجابهة الإرهاصات التي ارادت كبح صيرورتها واستمرارها ، فقد ساهمت ذاتها في تراجعها وافولها .
واستخدم العباسيون لأول مرة مصطلح "الدولة" بقولهم "هذه دولتنا"، وأدركوا ضرورة الإفادة من التناقضات التي أدت إليها سياسات التعصب القومي والإقليمي القبلي لمن سبقهم، فقربوا الموالي بشعار "تحقيق المساواة" دون أن يسقطوا أهمية "النزعة القومية" في بناء الدولة وحصاناتها، وتعاملوا بحذر مع النعرات الإقليمية فأفادوا منها، تقريباً ونبذاً، بقدر ما كانت تخدم ظرفيا مصالحهم .
كذلك ، تميزت الحاكمية في الحقبة العباسية ، بمظاهر الأبهة التي فاقت كثيرا ما حصل في الحقبة الاموية السالفة ، وبدا تأثر العباسيين بالكسروية والقيصرية واضحا في ذلك . فاحيطت أشخاصهم بهالات قد سية وروجت الروايات عن مقدرتهم وفصاحتهم وكفاءاتهم ومجالسهم غير العادية ، ينحني الداخلون عليهم ويقبلون الأرض بين أيديهم ، وصار وزير الخليفة وسيافه أبرز رجال الحاكمية (44)
وعلى الصعيد الاجتماعي سار العباسيون في المحور ذاته الذي سلكه الأمويون في الموقف من الملكية الحيازية والتصرف بالفائض المالي للدولة وبيت المال بحق مطلق، وكان عهدهم مرحلة لهيمنة إقطاعية أرستقراطية انقسم فيها المجتمع إلى مراتبية حادة ترافقت ونشوء طبقة تجارية نشيطة طموحة سعت لاستلام قيادة الدولة والمجتمع استثماراً لحركة المتغيرات التي أدت إليها المرحلة ، وحفلت فيها بخصائص نهوض حقيقي شامل على مختلف الصعد ، تهيأ فيها المجتمع لتبدل ثوري عنيف كاد ان يتحقق لولا العوامل التي أنهكت السلطة المركزية وأدت الى تداعيها في مرحلة تالية، الأمر الذي عرض المنطقة لغزوات أجنبية متلاحقة حالت دون ذلك التبدل وعدم تحقق البدائل الملائمة، لتطبق عصور الانحطاط والتردي بمحصلاتها في الأرض وعلى الشخصية العربية.
وعندما نجح الفاطميون في أمد قصير نسبيا، تأسيس خلافة بديلة عن الخلافة العباسية المتداعية، ساروا فيها على النهج السياسي الأموي والعباسي ذاته، خاصة في التوريث والحق الإلهي للحكم، فكانت مرجعيتهم في الخلافة انهم " أسباط النبي ونسل فاطمة وعلي" ، لكنهم لم يستطيعوا الإبقاء على ذلك الزخم النهضوي الهائل في العصر العباسي لأن عوامل الانتكاس كانت أقوى من جهودهم وخططهم لبناء دولة رديفة وريثة.
العصر العثماني:
جسد العثمانيون سياسات مختلفة توجوا بها سلسلة من الاحتلالات المتوالية التي تعاقبت على المنطقة العربية على أنقاض تداعي العصر العباسي، وانتهجوا بما يتناسب وطبيعة الاحتلال وخصائص الغزاة الغرباء عن المنطقة، وقد أصبح مصطلح "الخلافة" في تلك الفترة أدنى منزلة في هرم مراتبية الحاكمية التي يقف السلطان في قمتها.
وإذا حاول البعض فهم مصطلحي "الخلافة والسلطنة" كمترادفين، فان العديد من الكتابات المعاصرة قرنت الدولة العثمانية واعتبرتها دولة خلافة إسلامية، وبغض النظر عن مدى صحة هذا التقويم، فان محصلاته لاتغير من طبيعة الحكم العثماني الذي اكتسب شرعيته التاريخية بولادته ونشأته وبنظام القوة العسكرية الغالبة التي حققت له النجاح ، فأراد بالإسلام رديفاً لم يكن معه بحاجة لإثارة المجادلات حول أحقية الترك بخلافة الله أو خلافة الرسول، آو جواز الاستخلاف لغير العرب أو لغير قريش ، خاصة وأن المصطلح نفسه لم تعد له قيمة تذكر إلى جانب منزلة السلطان الذي صار اكبر أهمية واكثر اعتبارا ، له ان يغير الخلفاء ويعزلهم منذ نهاية الحكم العباسي وطوال العهود البويهية والسلجوقية وحكم المماليك وغزوات التركمان. وبين الحين والآخر ، لم يتحرج الحكام من استخدام لقب "الخليفة" لهم ، مرادفا لمصطلح "السلطان" او ملحقا به ، وذلك بتأثير من الهوية الدينية المعلنة للدولة . وهو امر تداول معه الحديث عن " دار الخلافة " و "دار الإمامة" جنبا الى جنب مع "دار السلطنة" الذي بقي أثيرا في البلاط العثماني (45).
وعلى الرغم من الجدل حول توجهات السلطان العثماني سليم الأول (1512ـ1520) والميل إلى عدم ثبوت اعلان نفسه خليفة للمسلمين بانتقال الخلافة اليه من "المتوكل" العباسي بعد الاستيلاء على القاهرة ، فان السلاطين العثمانيين استمدوا مرجعيتهم من إرادة مطلقة بالقوة والبطش الهائل لشعوب البلدان المحتلة، في حين تولى الإفتاء الذي يمثله "شيخ الإسلام" المقيم في العاصمة العثمانية، تأمين الولاء والطاعة، يعاونه بذلك أفراد أكفاء سعوا إلى جعل أزمات المواطن مقبولة في ظل سلطات الاحتلال، ولم يتورعوا عن القول حتى بجواز قتل السلطان لاخوته تحاشيا للمنافسة على العرش والفتنة.
ومن بعد السلطان سليم الأول كثرت ألقاب تبجيل السلاطين وإطنابهم بألقاب إسلامية، حتى مجيء السلطان عبد الحميد الثاني (1876ـ1909 م) الذي استقر في عهده لقب "الخلافة" ليتصدر الألقاب الأخرى في الخطاب السياسي للباب العالي وفقاً لاقرار قانوني ثابت نص عليه دستور الدولة عام 1876، بوصفه خليفة أعلى يحمي الديانة الإسلامية ويصونها من التغريب، بل "كضرورة ائتمانية انتقلت من أبي بكر إلى العثمانيين" وعاد الخليفة ليكون "ظل الله على الأرض ومنفذ أحكامه".
وبذلك تشكلت إحدى ظواهر التغييب العقلي للاحتلال العثماني لتصادر وعي المواطنين بمنظومة من الممارسات والقواعد المرسومة لعمومية النهب والتجهيل وإفراط طقوسية المعتقدات وإثارة النوازع الإقليمية والطائفية والعشائرية في نظام "الاصطفافات" و"الملل" و"الوصاية" وسواه من "مزايا" العهد العثماني.
وبتلك المبادئ وكما أطلت الشخصية العربية على القرن العشرين مصنعة بمفرزات عصور الانحطاط تنوء بترسانة مظاهرها ، أشرفت مفاهيم "الخلافة العثمانية" على هذا القرن لتندمج في مخاضاته ظاهرة أملتها الظروف المتبدلة وجددت في نهجها ومساراتها والتزاماتها كما اقتضته "العثمانية " والمراحل التي مرت بها.
الهوامش :
1.نزلت آيات القرآن في ثلاث وعشرين سنة هي تاريخ الرسالة حتى وفاة الرسول عن عمر ثلاثة وستين عاماً ، ومنها مرحلة التنزيل في مكة وقد احتوت على نحو ثلثي القرآن واستمرت نحو ثلاثة عشر عاماً، ومرحلة التنزيل في المدينة واتمرت نحو عشرة أعوام لبقية القرآن.
2.من الروايات المتداولة عن الرسول أنه كان في سفر وقد أمر أصحابه بإعداد شاة للطعام، فقال رجل "يا رسول الله عليّ ذبحها" وقال آخر "عليّ سلخها" وقال ثالث "عليّ طبخها"، فقال الرسول عليه السلام "وعليّ جمع الحطب"، فقالوا يا رسول الله نكفيك العمل، قال "علمت أنكم تكفوني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، إن الله سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه متميزاً عن أصحابه"، وفي واقعة أخرى أنه رفض ان لايعمل مع المسلمين في حفر الخندق حول المدينة .
ـ عن عباس محمود العقاد ، العبقريات الإسلامية، المجموعة الكاملة، مجلد أول. دار الكتاب اللبناني بيروت 1974.
3.المستشار محمد سعيد العشماوي، جوهر الإسلام، سينا للنشر، القاهرة ط 3 1993، ص 61.
4.محمد عابد الجابري الدين والدولة وتطبيق الشريعة مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت 1996، ص 19.
5.عبد الرحمن الشرقاوي، علي امام المتقين، مكتبة غريب، القاهرة، ج 1، ص 57.
6.عباس محمود العقاد ، العبقريات مصدر سابق، ج 1 ص 337.
7.عباس محمود العقاد، العبقريات ، المصدر نفسه، ج1 ، ص 298.
8.عباس محمود العقاد،العبقريات ، المصدر نفسه، ص 370.
9.الشرقاوي ، علي امام المتقين ، المصدر السابق ، ص26.
10.العقاد ، المصدر نفسه ، ص483.
11.ذكرت بعض المصادر ان لقب "امير ا لمؤمنين " كان معروفا للمسلمين قبل استخدام عمر له ، ذلك انه ورد اواخر عهد ابي بكر عندما وضع المؤمنين في جيش القادسية بامرة سعد بن ابي وقاص ، فدعاه الصحابة " امير المؤمنين " . لكن التاريخ الحقيقي لاختصاص الخليفة باللقب ، يرجع الى عهد عمر بن الخطاب ، ويذكر ان اول من دعاه به عبد الله بن جحش ، وقيل عمرو بن العاص ، او المغيرة بن شعبة ، كما يروى ان " حامل بريد " جاء ببشائر الفتح ، ولما دخل المدينة يسأل عن عمر كان يقول :" اين اجد امير المؤمنين ؟ " فسمع اللفظ اصحاب عمر فاستحسنوه ، وقالوا :" اصبت والله اسمه انه امير المؤمنين حقا ، فدعوه بذلك برضىً عنه وذهب لقبا للخليفة من بعده .
12.محمد قطب، شبهات حول الإسلام، القاهرة، ص 154.
13.الطبري ، تاريخ الطبري ، طبعة دار المعارف بمصر 1975، ج3 ، ص584.
14.ابو يوسف ، الخراج ، المطبعة السلفية ، القاهرة ، 1974، ص14 .
15.في مصر قام عبد الرحمن بن عمر بمعصية استوجبت إقامة الحد، فتردد والي مصر آنذاك عمرو بن العاص في تنفيذ العقوبة بابن الخليفة جهاراً، واكتفى بجلده في دار الولاية بعيداً عن أعين الناس، مما أثار غضب عمر عندما علم بذلك، فكتب إلى الوالي مؤنباً " عجبت لك يا ابن العاص لجرأتك علي وخلاف عهدي، فما أراني إلا عازلك فمسيء عزلك، تضرب عبد الرحمن في بيتك وتحلق رأسه في بيتك ، وقد عرفت أن هذا يخالفني؟، إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلت هو ولد أمير المؤمنين، وقد عرفت ألا هوادة لأحد بين الناس عندي في حق يجب لله عليه، فإذا جاء كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع" فلما قدم عبد الرحمن على أبيه، اشتد في عقوبته حتى مات بعد شهر من أثر الجلد الذي ثقل عليه.
16.عندما سأل عمر بن الخطاب عما يحل للخليفة من مال الله قال: "انه لا يحل من مال الله إلا حلتين، حلة للشتاء وحلة للصيف، وما أصبّح وأعتمر وقوتي وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم ثم أنا بعد رجل من المسلمين. ومن وصاياه للولاة والقضاة أن " آسي بين الناس في مجلسك ووجهك حتى لا يطمع شريف في صنعك ولاييأس ضعيف من عدلك".
17.ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، طبعة دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، 1965 ، ص185.
18.العقاد عبقريات، مصدر سابق ص 552.
19.عندما اجتمعت الوفود تريد قتل عثمان، وتناهى خبر ذلك إلى علي بن أبي طالب، سارع لإرسال ابنيه الحسن والحسين للذود عنه وهو يوصيهما: "إذهبا بسفيكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحدا يصل اليه"، كذلك بعث الزبير ابنه ، وطلحة ابنه، وعدد من الصحابة الآخرين أبناءهم ، للدفاع عن الخليفة، فقاموا بمنع الناس عن الدخول إلى عثمان وسألوه إخراج"مروان بن الحكم " من الدار لتسوية الأمر وكبح جماح الغضب. فلما رفض ذلك ، رمى المجتمعون باب الدار بالسهام، حتى خضب الحسن بن علي بالدماء على بابه، وأصاب مروان سهم وهو بالدار، كذلك خضب محمد بن طلحة، وشج قنبر مولى علي، فخشى محمد بن أبي بكر، وكان يقود ثلة من المتمردين، أن يغضب بنو هاشم لحال الحسن والحسين فيزداد تعقيد الأوضاع. واستبسل المدافعون عن عثمان، ولما عجز المحاصرون عن اقتحام الدار أحرقوا بابه، ثم تسلقوا داراً مجاورة ليصلوا إلى غرفة الخليفة ويجهزوا عليه.. ولما بلغ علياً وطلحة والزبير خبر استشهاد عثمان خرجوا وقد أذهلتهم الفاجعة، حتى دخلوا على عثمان، فاسترحموا، وقال علي لإبنيه مؤنباً "كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب، ورفع يده فلطم الحسن وضرب صدر الحسين، ووبخ كل من عبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة وسائر أبناء الصحابة وغيرهم من المهاجرين الذين كانوا يحرسون عثمان.
عن : السيوطي، تاريخ الخلفاء، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر ط 2، 1952، ص 159.
20.اثر مصرع عثمان ذهبت أفواج من أهل المدينة والأنصار والأعراب إلى علي لمبايعته فقال لهم" دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لاتقوم له القلوب ولاتثبت عليه العقول" وعند إصرارهم عليه وإدراكاً منه لتعقيدات المرحلة، وتكاثر مراكز القوى كان يرد عليهم "إن أجبتكم ركبت بكم ما لا أعلم، وإن تركتموني، فاني أنا أحدكم الا أني، أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه" وأعاد الناس الكرة في الصباح التالي ملحين في البيعة وعلي ممتنع عنها. لكنه إزاء تفاقم اضطراب الأمور في المدينة واستفحال الخطر الذي بات يهدد الإسلام، قبل المبايعة مشترطاً أن تكون في المسجد وعن رضا المسلمين جميعاً، فكان له ذلك حيث اجتمع الأنصار والمهاجرين وكبار الصحابة، وكان طلحة أول من بايعه.
ـ ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج 7، ص 33.
21.ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج 9، ص 288.
22.ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، المصدر نفسه، ج 9، ص 291.
23.محمد عماره ، المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية ، المؤسسة العربية للدراسات ، القاهرة ، 1972، ط1، ص193.
24.ابن ابي الحديد، شرح النهج، المصدر نفسه، ج 3، ص 240.
25.ابن ابي الحديد، شرح النهج، المصدر نفسه، ج 9، ص 137.
26.حمود العودي، مقالة في الدين والصراع الاجتماعي، عن كتاب الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة، بيروت 1990، ص 200.
27.ابن أبي الحديد، شرح النهج، مصدر سابق، ج 17، ص 32.
28.ابن أبي الحديد، شرح النهج، المصدر نفسه، ج 16، ص 287.
29.ابن أبي الحديد، شرح النهج، المصدر نفسه، ج 11، ص 123.
30.العقاد، عبقريات، مصدر سابق، جص، ص 131 .
31.محمد عمارة ، المعتزلة واصول الحكم ، المؤسسة العربية للدراسات ، بيروت 1977 ، ط1، ص193.
32.عبد الرحمن الشرقاوي، علي امام المتقين، مصدر سابق، ج 1، ص 21.
33.أبو عمر الأندلسي، العقد الفريد، طباعة دار الكتاب العربي، 1982، ج 1، ص 25.
34.فرج فوده، الحقيقة الغائبة، دار الفكر الجديد، 1955، ص 68.
35.محمد سعيد العشماوي، الخلافة الإسلامية، دار سينا للنشر، ص 132.
36.حاول معاوية مرارا مشاورة عدد من الصحابة في امر استخلاف ابنه يزيد من بعده ، ومنهم عبد الرحمن بن ابي بكر، وعبد الله بن جعفر بن ابي طالب ، وعبد الله بن عمر ، فاخفق في الحصول على موافقتهم . وذكر الأندلسي، ان معاوية جمع مرة ، من اعتبرهم أهل العقد والحل ، كي يوازن بين المشاورة والوصاية، فوقف بينهم المغيرة بن شعبه خطيباً، فأشار إلى معاوية وقال: " أمير المؤمنين هذا" ثم أشار إلى يزيد بن معاوية وقال "فإذا مات فهذا" ثم أمسك بسيفه وشهره قائلاً " ومن أبى فهذا" فعلق معاوية على الخطبة قائلاً "أجلس فأنت سيد الخطباء".( الأندلسي، العقد الفريد، مصدر سابق، ج 2، ص 3 7) .
وروى السيوطي ، ان المغيرة عندما قدم على معاوية معزولا منه وقد أبطأ عليه ، سأله عن سبب إبطائه ، فاجاب المغيرة :" امر كنت اوطئه أهيئه ، قال : فما هو ؟ قال : البيعة ليزيد من بعدك ، قال : اوقد فعلت ؟ قال : نعم ، قال : ارجع الى عملك" (السيوطي ، مصدر سابق ، ص 205 ).
37.محمد جلال شرف، نشأة الفكر الإسلامي وتطوره في الإسلام، دار النهضة، بيروت 1982، ص 223.
38.هادي العلوي، المستطرف الجديد، مركز الأبحاث دمشق 1986، ص 41.
39.يذكرالسيوطى بعضا من ذرائعية المشروع العباسي عن طريق رواية الحديث ( السيوطي، تاريخ الخلفاء، مصدر سابق، ص13 ومابعدها).
40.الأندلسي، العقد الفريد، مصدر سابق، ج 1، ص 41.
41.، 42 ، 43) السيوطي، تاريخ الخلفاء، مصدر سابق، ص 267، 268، 263.
44. محمد جلال شرف ، مصدر سابق ، ص115 .
45. استخدم "نادر قلي شاه"أحد زعماء القبائل التركمانية التي غزت المنطقة العربية ، مصطلح " خليفة إسلام " لقبا للسلطان العثماني عند مراسلته إياه . وكانت بعض الصيغ الرسمية تطلق على السلطان العثماني أحيانا ، لقب " أمير المؤمنين " . وورد هذا اللقب في نقش " قلعة القوس " كذلك في نقش قديم زين به مسجد المدينة ونصه " أمر ببناء هذا المسجد المبارك مولانا أمير المؤمنين الملك المظفر بايزيد " . وعندما اصدر السلطان محمد الفاتح وثيقة " وقف نامة " أطلق على نفسه فيها لقب " أمير المؤمنين ، وإمام المسلمين ، سيد الغزاة والمجهادين ، المؤيد بالفتح والنصر السلطان محمد خان "
هاملتون حبيب ، النظم والفلسفة والدين ، المركز العربي للكتاب ، دمشق ، ص9 .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire