samedi 18 janvier 2014

المعتزلة والرد على أهل الملل والنحل المناهضين للإسلام محمد عابد الجابري

 

 

المعتزلة والرد على أهل الملل والنحل المناهضين للإسلام

محمد عابد الجابري

عرضنا في المقالات السابقة لنظرية «الجوهر الفرد» التي كانت تشكل العمود الفقري لعلم الكلام، المعتزلي والأشعري، في أوج تطوره والتي انتهت إلى مأزق مع «أزمة الأحول». وقلنا إن الغزالي دعا إلى تجاوزها بتبني المنطق الأرسطي. وقبل أن نوضح الظروف والملابسات التي حملت الغزالي على ذلك، نرى من المفيد الإشارة إلى الظروف الموضوعية التي ظهرت فيها نظرية «الجوهر الفرد» والأهداف التي كانت تخدمها والتي وجهت مسار علم الكلام وأملت مسائله وأطروحاته.
لم يكن المعتزلة، الذين أسسوا وطوروا نظرية «الجوهر الفرد» من علماء الطبيعة، ولا من المنشغلين بـ «علوم الأوائل»، وإنما كانوا «متكلمين»، يستعملون عقولهم وقواهم الجدلية للدفاع عن العقيدة الإسلامية ضد المخالفين والمهاجمين من «أهل الملل والنحل» الذين عجت بهم ساحة الدولة العربية الإسلامية عقب الفتوحات الكبرى، الذين استهدف كثير منهم سلطة العرب وعقيدة الإسلام.
ومعروف أن «منهج السلف» في الدعوة والاجتهاد كان يقوم على الاستناد إلى القرآن والحديث والسيرة، لكن هذا المنهج لم يكن فاعلا في مجال الرد على خصوم الإسلام من «أهل الملل والنحل» لأنهم لم يكونوا يسلمون بنبوة محمد عليه الصلاة السلام أصلا، بل لقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك فقالوا : القرآن إنما يخاطب العرب بلسانهم، ولا يخاطب أمما أخرى لها لغاتها الخاصة وعقائدها الخاصة إلخ، وبالتالي فهو ليس حجة عليهم إلخ. ومن هنا لجأ المتكلمون المدافعون عن الإسلام (وهم المعتزلة قبل غيرهم) إلى الرد عليهم بـ «حجج العقول» وباتخاذ الواقع الحسي والخبرة اليومية المشتركة مرجعية للحجاج بدل النصوص الدينية.
كانت المانوية (أتباع ماني بن فاتك، «النبي» الفارسي الثائر على الكسروية والقائل بمبدأين: النور والظلم، ويطلق عليهم أيضا المثنوية) قد اكتسحوا الساحة الدينية والفكرية في أواخر عهد الإمبراطورية الفارسية التي أوصلوها إلى حافة الانهيار. ولما سقطت هذه الإمبراطورية في أيدي الفاتحين العرب وأصبحت السيادة للإسلام (الذي اعتبروه قاطف ثمار ثوراتهم ضد الكسروية) تجندوا للهجوم عليه والتشكيك في عقيدته.
وهكذا، فبينما انزوى أتباع بقايا الديانات الفارسية القديمة الذين يجمعهم اسم «المجوس»، في جماعات صغيرة متفرقة، داخل البلاد الإيرانية خاصة، لا يتعرضون للإسلام ولا لدولته فتمتعوا بسبب ذلك بوضعية الأقلية الدينية المحترمة ولكن غير المؤثرة... بينما كانت هذه حال المجوس بكيفية عامة، كانت وضعية المانوية على العكس من ذلك تماما. لقد وضعوا أنفسهم في موضع الآخر - الخصم للإسلام والعرب، فظهروا كحركة سياسية دينية ثقافية منظمة تهاجم علانية الإسلام ودولته العربية. وقد استطاعت هذه الحركة أن تستقطب، بعض المثقفين والكتاب وجماعات من الموالي وشخصيات من الأرستقراطية الفارسية فتداخلت مع الحركة الشعوبية وتركزت حملتها على الواجهة الثقافية، فكان ما سماه هملتون جيب بـ «معركة الكتب» التي كان هدف القائمين بها، فيما يرى هذا المستشرق الكبير : إحلال «روح الثقافة الفارسية محل ما خلقته التقاليد العربية من مؤثرات في المجتمع المدني الجديد المتطور بسرعة البرق»، ويضيف: «وكان سبيلهم إلى ذلك أن ترجموا ونشروا كتبا فارسية الأصل كانت تلقى لدى الجمهور ذيوعا ورواجا...». والحق أن المرء لا يملك إلا أن تأخذ به الدهشة كل مأخذ حينما يطلع على قائمة الكتب والرسائل المانوية المترجمة إلى العربية والتي كانت تعد بالمئات، إضافة إلى ما كانت تحظى به هذه الكتب من عناية من طرف ناشريها، إذ كانت تنقل إلى العربية وهي، كما يقول الجاحظ : «أجود ما تكون ورقا يكتب عليه بالحبر الأسود البراق ويستجاد له الخط». ويقول مستشرق آخر - لا يمكن اتهامه بمحاباة الإسلام - هو هينرش بيكر: «يستطيع المرء أن يدرك اليوم أن المانوية والزرادشتية كانتا له (للإسلام) عدوتين خطيرتين كالمسيحية على أقل تقدير، وأن غنوص المانوية والمذاهب الشبيهة بها كانت خطيرة على الإسلام خطرا مباشرا»، ثم يضيف: «ولذلك نرى أول مدرسة كلامية في الإسلام، ونعني بها المعتزلة، قد شيدت بعضا من أصولها ومسائل بحثها (يشير إلى نظرية الجوهر الفرد) عن طريق كفاحها ضد المانوية».
لقد أدرك العباسيون خطورة تعاليم المانوية فتصدوا لمحاربتها دون هوادة، وكان الخليفة المهدي أشد خلفائهم قسوة عليها. يقول المسعودي: «وأمعن المهدي في قتل الملحدين والمداهنين عن الدين لظهورهم في أيامه وإعلانهم اعتقاداتهم في خلافته لما انتشر من كتب ماني وابن ديصان ومرقيون مما نقله ابن المقفع وغيره وترجمت من الفارسية والفهلوية إلى العربية»، ويضيف المسعودي قائلا : «وكان المهدي أول من أمر أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين (...) فأقاموا البراهين على المعاندين وأوضحوا الحق للشاكي».
ومعروف أن المتكلمين الذين جندتهم الدولة العباسية في حربها ضد المانوية هم المعتزلة، فقد كانوا منذ أن تأسست فرقتهم على يد واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، في أواخر العصر الأموي، من أبرز المدافعين عن الإسلام ضد التيارات الدينية السابقة والمذاهب المخالفة لعقيدة الإسلام. يقول الجاحظ : «لولا المتكلمين لهلكت العوام واختطِفت واسترِقت، ولولا المعتزلة لهلك المتكلمون». وإن نظرة سريعة إلى مؤلفات بعض شيوخهم وإلى سلوكهم الديني لخير دليل على صحة ما ذكره هذا الأديب الموسوعي الشهير.
كان واصل بن عطاء (81 هـ 131هـ) مؤسس مذهب المعتزلة منصرفا في دعوته إلى الرد على المانوية أكثر من انشغاله بالجدال مع الفرق الإسلامية من خوارج وشيعة وغيرهم»، تذكر مصادرنا أنه ألف كتبا في الرد على «أهل الملل والنحل»، منها كتاب بعنوان «كتاب الألف مسألة في الرد على المانوية»، وأنه كان يجند مجموعات من تلامذته وأتباعه لتتبعهم شرقا وغربا، فعبث بعوثا إلى خراسان وأرمينية للدعوة إلى الإسلام وإبطال مذهب التناسخ، كما أرسل دعاة إلى المغرب الأقصى، حيث كان لهم حضور بارز في طنجة ومنطقة الشمال التي كانت دعوة ماني قد وصلتها من خلال كتبه. أما في العراق فقد برز واصل كواحد من كبار العلماء الذين قاوموا عقيدة «الكيسانية» القائلين بجواز «النسخ والبداء» على الله، متأثرين ببعض التيارات اليهودية.
أما أبو الهذيل العلاف (131- 227 هـ) منظر المذهب، فيذكر له مؤرخو الفرق «ألفا ومئتي صنف من الكتب يرد فيها على المخالفين وينقض كتبهم»، منها كتب في الرد على المانوية والمجوس والدهرية إلخ. كما يذكرون لتلميذه إبراهيم بن سيار النظام (160-231هـ) كتبا في الموضوع نفسه منها كتاب الثنوية، وكتاب التوحيد، وكتاب نقض أرسطوطاليس... لقد اعتبره المعتزلة في عصره «رجلا لا نظير له»، وقال عنه الجاحظ : «ما رأيت أحدا في الفقه والكلام أعلم من النظام».
أما شيوخ المعتزلة المتأخرين فقد كانوا علماء كبارا في مختلف مناحي الثقافة العربية الإسلامية: في الفقه وأصوله، وفي الحديث، كما في علم الكلام، والبلاغة. واشتهرت كتبهم التي كانت – ومازالت - تضم ردودا متواصلة متعددة، على أهل الملل النحل». وقد تكفي الإشارة إلى القاضي عبد الجبار الذي خصص أحد مجلدات كتابه الضخم، «المغني»، للرد على الفرق غير الإسلامية. أضف إلى ذلك أنهم ألفوا كتبا مرجعية في الفقه وأصوله والبلاغة مما جعل منهم فعلا المؤسسين الأصلاء للنظام المعرفي البياني العربي.
أما سلوك المعتزلة، الديني والأخلاقي، فقد لفت أنظار المستشرقين إلى درجة أن أحدهم ذهب إلى أن اسم المعتزلة «أطلق عليهم لكونهم اشتهروا بالتعبد والزهد والتقوى». وقد يكفي أن نذكر مما يؤيد هذا، الأمثلة التالية:

 

سئلت أخت واصل بن عطاء عن حاله، فقالت: «كان واصل إذا جن الليل صف قدميه يصلي، ولوح ودواة موضوعان، فإذا مرت به آية فيها حجة على مخالف جلس فكتبها ثم عاد إلى صلاته». أما زوجها، صديق واصل وشريكه في تأسيس مذهب الاعتزال عمر بن عبيد (80 - 144)، فقد وصفه ابن خلكان بـ «المتكلم الزاهد المشهور»، وقال عنه طاش كبرى زادة «وكان عمر بن عبيد من أعلم الناس بأمور الدين إلا أن الناس لا يرضون باجتهاده لاعتزاله»، كما أن الذهبي اعتبره في «ميزان الاعتدال» من «كبار المحدثين». ومما يروى عنه أنه مر يوما بسارق يقطع عاملُ الخليفة يده فقال: «سارق السريرة يقطع سارق العلانية». واستدعاه أبو جعفر المنصور يوما طالبا منه أن يعينه هو وأتباعه على إقامة العدل فأجابه ابن عبيد قائلا: «ادعُنا بِعَدلك تسْخُ لك أنفسنا بعونك. ببابك ألف مظلمة، أردد منها شيئا نعلم أنك صادق». ولما غادر ابن عبيد مجلس الخليفة أخذ يسرع الخطى، والمنصور يرقبه ويقول: «كلهم (زواره) يمشي رويدا، كلهم يبغي صيدا، غير ابن عبيد».



 http://www.aleqt.com/2009/07/21/article_254672.html

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire